تشتهر عائلات ولايات الشرق الجزائري بتمسكها بالعادات والتقاليد الرمضانية، حيث يستحيل أن تتجول بين أحيائها وأزقتها الشعبية خاصة دون أن تشم رائحة الشهر الفضيل، المنبعثة من الأسواق نهارا، ومن البيوت مساءً ومن مآذن المساجد.
ما تزال العديد من العادات والتقاليد تطبع عائلات مناطق الشرق الجزائري، والتي لا غنى عنها خلال شهر رمضان الفضيل، حيث ما تزال أغلب الأسر متمسكة بما توارثته عن آبائها وأجدادها، وهو ما يصنع نكهة مميزة لرمضان سواء على مائدة الإفطار أو خلال السهرات، خاصة لدى العائلات التي تسعى إلى توطيد روابط العلاقات الأسرية وتجسيد صلة الرحم في هذا الشهر الكريم.
الأحياء الشعبية وروائح الشهر الفضيل

تتجلى هذه العادات والتقاليد على وجه الخصوص بالأحياء الشعبية وأزقتها القديمة، والتي ما تزال محافظة على ما توارثته عن آبائها وأجدادها، خاصة ما يطلق عليه بـ “لمّة رمضان”، حيث لا تتوانى العديد من عائلات الشرق الجزائري عن دعوة الأهل والأصدقاء وحتى الجيران للالتفاف حول مائدة مزينة بمختلف الأطباق التقليدية الرمضانية، ولا تتوانى هذه العائلات عن إكرام ضيوفها بما لذ وطاب من مأكولات تقليدية وأخرى عصرية، معتبرين الهدف من هذه القعدات ليس فقط الترفيه والتسلية، وإنما لمّ شمل الأصدقاء والأحباب، وتربية الأجيال على تقاليدنا الشعبية العريقة ليقوموا بدورهم بإيصالها لمن يأتي بعدهم.
الأطباق التقليدية سلاطين موائد الشرق

يحتل طبق “الجاري” أو شوربة الفريك صدارة الأطباق التقليدية المتربعة على موائد طاولات الشرق الجزائري إضافة إلى البوراك أو البريك الشهير، الذي يعد هو أيضا سلطان المائدة، فلا غنى عنه، ولا استغناء عنهما ولا رمضان بدونهما، لا سيما وأن مدن الشرق الجزائري تشتهر بشوربة تختلف في مذاقها عن أكلات المدن الأخرى، وبـ “بوراك” مميز تتفنن المرأة الشرقية في تشكيله والتنويع في محتواه لتقديمه كطبق رئيسي، إذ تعتمد أغلب الأسر في حشو هذه الأكلة على البطاطا المهروسة والبصل واللحم المرحي، والجبن والزيتون، إضافة إلى المعدنوس، ليضاف إليه في الأخير حبة أو حبتي بيض حسب رغبة الفرد، مع العلم أن هناك من يفضل أن يكون البيض غير مطهو بالكامل، أو كما هو معروف “نص طياب” وآخرون يفضلون طهيه كاملا، وهو ما يجعل شكل البوراك يأخذ حجما كبيرا ويعتبر وجبة غذائية كاملة.
كما لا تتوانى الأسر هناك عن تقديم وجبات أخرى إلى جانب البوراك والشوربة، على غرار الشخشوخة التي تُميز موائد الشرق الجزائري لا سيما خلال احتفالية «ليلة النصفية» من رمضان أو خلال دعوة أشخاص للإفطار.
تبادل أطباق الأكلات الرمضانية بين الأهل والجيران

من العادات التي ما تزال أيضا تحتفظ بها بعض الأسر في الشرق الجزائري، تبادل الأطباق بين الجيران، حيث لا يمكن أن تفوت بعض العائلات فرصة الإفطار دون أن يتذوق جيرانهم المقربون ما تفننت في إعداده ربة البيت، وهو ما أكدته عدد من السيدات اللواتي لازلن محافظات على عادة تبادل الأطباق فيما بينهم رغم أن هذه العادة اندثرت خاصة لدى عديد الأسر في الجزائر، لكنهن أكدن تمسك عديد العائلات المحافظة بهذه العادة، خاصة بالنسبة للسيدات اللواتي ورثنها عن عائلتهن ويرغبن في أن تستمر لدى أحفادهن حتى لا تختفي تماما عن سكان شرق الجزائر المعروفين بكرمهم وحسن الضيافة، حيث لا يحلو لهذه العائلات شهر رمضان الفضيل دون أن تكون العائلة مجتمعة، أو أن يتذوق الجيران من طبخ العائلة.
رمضان زمان.. سحر العبادة وحلاوتها

وكغيرها من مناطق الجزائر، يفتقد سكان مدن الشرق الجزائري لبعض تفاصيل وروحانيات الشهر الفضيل، حين كانت العائلات تجتمع بعد أداء صلاة التراويح للتسامر، حيث كان الرجال يجتمعون في الأزقة والساحات الرئيسية، في حين تجتمع النسوة في «وسط الدار» على صينية قلب اللوز والشاي والزلابية ومختلف الحلويات الرمضانية، والتسامر وتجاذب أطراف الحديث إلى غاية منتصف الليل وأحيانا إلى وقت السحور، حيث يتقاسمن في أغلب الأحيان أيضا طبق السحور فيما بينهم.
تنظيف المنازل والمساجد

وهناك بعض الأجواء التي تشترك فيها مدن الشرق الجزائري قبيل رمضان والتي تتسم لدى العائلات هناك بتنظيف ربة البيت لمنزلها، أو طلائه إن تطلب الأمر ذلك، وتزيينه، إلى جانب شراء مختلف المستلزمات الخاصة بالشهر الفضيل على غرار الفريك لتحضير الشوربة والتوابل المتنوعة، وتتفنن في طهي أوراق البوراك.. كما يستعد السكان هناك لرمضان بتنظيف المساجد وتزيينها بالأضواء الملونة وغسل السجاد لاستقبال المصلين لأداء صلاة التراويح، وهو العمل الذي يشترك فيه النساء والرجال والشباب وحتى الأطفال.
“بوطبيلة”.. الغائب في الواقع والحاضر في الذاكرة

لا ينكر الكثيرون افتقاد عائلات الشرق الجزائري وسكان حاراتها العتيقة مع مرور السنين الكثير من العادات والتقاليد التي كانت تصاحب ليالي رمضان، ومن العادات التي افتقدتها شوارع المدينة جولات “بوطبيلة” الليلية وهو شخص يطوف الشوارع والأزقة منبِّهاً الناس بوقت السحور وهو مثل المسحراتي المعروف في المشرق العربي، وكان بوطبيلة يجول الأزقة القديمة منادياً أهل الحي الواحد تلو الآخر كونه ابن الحي، حيث ينادي باسم صاحب المنزل قائلا: “نوض تتسحر يا فلان”، كما كان يستعمل الدفَّ خلال مناداته ومقابل خدماته تلك تقدم له الحلويات.
“النفقة”.. في إحياء النصفية
يحتفل سكان الشرق الجزائري كغيرهم من الجزائريين، بمرور النصف من شهر رمضان أو ما يعرف بالعامية بـ «النصفية» أو «النفقة»، وهي عادة راسخة ترتبط بتقاليد توارثتها العائلات، وحرصت على تكريسها حفاظا على قيمة وأهمية الشهر واحتفالا بانقضاء أسبوعين كاملين من العبادة والصوم، ولذلك يتميز هذا اليوم بتحضيرات خاصة تعكسها أطباق تقليدية تكون حاضرة بقوة، إلى جانب الحرص على العبادات والتقرب إلى الله وإكرام القريب والبعيد.
ويعتبر الاحتفال بهذه الليلة تقليدا مميزا في شهر رمضان يحتفي به سكان الشرق الجزائري، ويكون تحضير الأطباق التقليدية العادة المشتركة بين جميع العائلات، ويشتق اسم «النفقة»، من الإنفاق، لأن العائلات تتصدق في هذا اليوم على الفقراء والمحتاجين، طلبا للمغفرة وثبات الأجر وسعة الرزق وصلاح الأبناء.
ومن بين أشهر الأطباق التي يتم إعدادها بهذه المناسبة في مدن الشرق، “المرقة الحلوة” أو “طاجين البرقوق أو عين بقرة وشباح السفرة” أحيانا، إلى جانب شوربة الفريك، وطبق تقليدي رئيسي، يتنوع بحسب الرغبة، حيث تفضل عائلات تحضير “الشواط أو تريدة الطاجين”، بينما تفضل أخرى “الشخشوخة” باللحم، ويكون الكسكس بالمرق الأحمر حاضرا على موائد عديدة كذلك، وهي نفس الأطباق التي تشترك في إعدادها الكثير من الأسر الجزائرية في مناطق الشمال، ويوزع منه في هذا اليوم على الفقراء والمحتاجين كنوع من التراحم والتلاحم والصدقة، وتعد هذه التحضيرات شكلا من أشكال الاحتفال والفرح بليلة مباركة لا تخلو من الأجواء الروحانية، حيث يحرص المسلمون في النصف من رمضان، على تأدية الشعائر الدينية بخشوع والإكثار من الصلوات وتلاوة القرآن وقيام الليل والتصدق على المحتاجين وصلة الأرحام طلبا لمرضاة الله وليثبت الأجر.
ق. م