يُحيي العالم، اليوم، عيد الطفولة، في وقت تستمر فيه آلة العنف والعنهجية الاستعمارية الإسرائيلية في حصد أرواح الأطفال الفلسطينيين في غزة، الذين حرموا من أبسط حقوقهم في الحياة.
من العار على المجتمع الدولي بشكل عام، أن يحيي مناسبة عيد الطفولة في ظل ما يحدث لأطفال غزة المحرومين من الحياة سواء بالموت تحت القصف أو تحت وطأة الجوع.
أرواح الأطفال تتساقط يوميا

منذ بداية الحرب على غزة لم تتوانَ آلة القتل الإسرائيلية عن قتل الأطفال واستهدافهم بشكل مباشر، فما إن نسمع ونتحدث عن مجزرة بحقهم حتى تحدث أخرى، فلم تبق أي وسيلة قتل لم يتعرضوا لها سواء بالقصف أو الحرق أو التجويع.
شظايا تمزق قلوب الصغار

واجه أطفال غزة منذ بداية الحرب عليها، ألوانا منوعة من الموت القادم من كل مكان، وحصدت آلة الحرب الإسرائيلية مئات الأرواح الصغيرة، وتركت بصماتها شاهدة في حروق شديدة وجراح وبتر لأعضاء كثيرة من تلك الأجسام الطرية.
ووفق الأطباء الغزيين، فإن نسبة كبيرة من الإصابات سجلت وسط الأطفال، ونسبة كبيرة من الجراحات والحروق كانت مميتة وبالغة الخطورة.
كما أظهرت العديد من الصور ومقاطع الفيديو التي تداولها الإعلام هشما لرؤوس الصغار، وشظايا تخترق البطون والقلوب الصغيرة، كما حطم الركام المتناثر من العمارات والبيوت التي دمرها القصف الإسرائيلي أجساد مئات الأطفال الصغار.
وتؤكد الفيديوهات المنشورة أن الحرب في غزة تركز على أطفالها، في مسعى للقضاء على جيل كامل من الأزاهير القابضة على جمر المقاومة، فمنهم من رحل وترك غصة الألم والفراق في نفوس والديه، ومنهم من جلس على الركام يبكي الأبوين والإخوة الذين قضى عليهم القصف وبقي وحيدا، ولكلٍ قصةٌ دامية وذكرى لوعة وجرح فراق لا يندمل.
ليالٍ من نار وأيام من دمار

يتواصل ارتكاب قوات الاحتلال الإسرائيلي للمجازر بحق الأطفال بغزة، فكلما تحدث مجزرة ترهب العالم حتى تحدث مجزرة أخرى في توالٍ صادم ومخيف، فلا يوجد في غزة مجزرة أخيرة إلا بشكل مؤقت، ومن بين المجازر المروعة التي حدثت في غزة، نذكر المجزرة التي تعتبر الأخيرة بالنسبة لوقت كتابة هذا المقال، وهي المجزرة التي راح ضحيتها 36 شهيدا بعد استهداف مدرسة تأوي نازحين في حي الدرج وسط القطاع.
فبينما كان الأطفال نياما داخل خيام منصوبة في فناء مدرسة فهمي الجرجاوي وسط غزة، اخترق صاروخ إسرائيلي جدران المدرسة، فانقلب الليل نارا ورعبا.
فحوّل الاحتلال الصهيوني مدرسة الجرجاوي التي كانت تأوي نازحين إلى محرقة بشرية وأجساد الأطفال تفحّمت تحت الركام في جريمة حرب وواحدة من أبشع جرائم العدوان وأكثرها وحشية.
ولم تكتفِ قوات الاحتلال بتحويل المدرسة إلى كومة من الأنقاض، بل أدى القصف إلى إحراق أجساد الأطفال وتفحم جثثهم، في مشهد تجاوز حدود الفاجعة.
ووصف شهود عيان الليلة بأنها “ليلة من نار”، إذ التهمت ألسنة اللهب الفصول والغرف التي احتمت بها العائلات، في حين دوّى صراخ الأطفال والنساء في أرجاء المكان عاجزين عن الفرار من جحيم حاصرهم من كل اتجاه.
وما حدث في حي الدرج لم يكن غارة عادية، بل واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ استئناف حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع أكتوبر.
ووفقا لمصادر طبية، فإن القصف استهدف المدرسة بشكل مباشر، مما أدى إلى استشهاد 36 فلسطينيا نصفهم من الأطفال، في حين أُصيب العشرات بحروق خطيرة، ونُقلوا إلى مستشفيات المدينة المنهارة بفعل الحصار والقصف الإسرائيلي المتواصل.
وتداولت منصات التواصل مقطعا مصورا يوثق لحظة خروج الطفلة ورد جلال الشيخ خليل من قلب النار وهي تصرخ وتبكي، في وقت استشهدت فيه والدتها و6 من أشقائها، ولم يتبقَ لها من عائلتها سوى والد جريح، حالته حرجة، ويصارع الموت داخل المستشفى.
وهزّ المشهد مشاعر العالم، وأعاد التذكير بأن المجازر ليست مجرد أرقام، بل روايات موت ونجاة، وأجساد صغيرة احترقت وهي تحلم بالخلاص.
وتُضاف مجزرة حي الدرج إلى سجلّ الجرائم التي يصرّ الاحتلال على ارتكابها ضد أطفال ونساء نزحوا من منازلهم هربا من القصف، ليلقوا حتفهم في مكان يُفترض أنه آمن.
أرواح تُزهق في رحلة البحث عن لقمة العيش

ضيّق الاحتلال الاسرائيلي الخناق على غزة، من خلال المعابر المغلقة، والغذاء الممنوع من العبور، عشرات الشاحنات التي دخلت إلى جنوب القطاع، وصفتها المؤسسات الدولية بأنها “نقطة في بحر الاحتياج لمليوني جائع ومحاصر”، أما شمال وادي غزة، فما زال خارج معادلة الرحمة، محرومًا من الغذاء، مما يعني أن قائمة الشهداء ما زالت قابلة للزيادة.
وتناولت الكثير من الفيديوهات و “الربورتاجات” المصورة قصصا لأطفال أزهقت أرواحهم وهم في رحلة البحث عن الغذاء، ونذكر منها قصة الطفل الذي خرج بحثا عما يسد به جوع معدته، فعاد بلا قدميه، وظهر الطفل يوسف على السرير في مستشفى المعمداني، والذي فتح عينيه ليجد يد أبيه تمسك بيده، فبدأ يردد “الحمد لله، الحمد لله”، بينما كانت عينا والده تغصّ بالحسرة والرعب، لا سيما حين علم أن ولده سيخضع لعدة عمليات لبتر ساقيه، واستئصال جزء من الطحال، كما خسر 70% من إحدى خصيتيه، وهو واقعٌ مرّ لن يستفيق يوسف على تفاصيله إلا بعد أيام.
بعدها صار يوسف يسأل عن ساقيه، كان من حوله يخفون عنه الحقيقة، فعدم قدرته على الانحناء كانت تحول دون تحسس قدميه، لكنه استغل قوته في ليلة ما مستغلا نوم من حوله، فمدّ يديه يتحسس ساقيه فلم يجد شيئًا، وقال الطفل للصحفية التي أجرت اللقاء معه “وجدتني أمسك فراغا، قلت حينها بيعوض الله، راحوا رجليا”.
وعندما سألته عن أول شيء خطر بباله بعد ما تأكد من فقدانهما؟، فأجاب: الكرة، كنت أحب لعب الكرة كثيرا، غير أني راجعت نفسي هل الجوع أقسى؟ أم الحال التي وصلت إليها الآن؟
وداع جلب الطحين

قصة أخرى التقطتها العدسات أو بالأحرى روتها سيدة يحمل قلبها وجع العالم، هي قصة أب وأبناؤه يتحضرون للذهاب إلى منزلهم لجلب ما تبقى من طحين ومؤونة، وكانت الأم تقف على عتبة الخوف، قلبها مقبوض يُحدّثها بأن هذا المشهد هو الأخير، همّت بالخروج معهم، لكنها لم تُمنح تلك الفرصة، وقالت إنهم قالوا لها “خليكي، إحنا بنرجع بسرعة”، هكذا قالوا لها، لكنهم لم يعودوا.
وفي منطقة التركمان، وسط بيوت الشجاعية المهجورة، بدأ الشابان بجمع بعض المواد الغذائية المتبقية، بينما كان الأب يبحث عن لحظة دفء صغيرة في منزلهم الذي اختنق بالشوق والرماد، فأحبّ أن يحتسي كأسا من الشاي ريثما ينتهيان.
أحدهما يشعل النار، والآخر يُرتّب الأغراض، وقد كانت المسافة الفاصلة بينهما أقل من متر، قبل أن تخترق قنبلة من طائرة كواد كابتر صمت اللحظة، لتخترق شظاياها أجسادهم الثلاثة دفعة واحدة، فاستشهد الشابان على الفور، وأُصيب الأب بجروح بالغة.
وقالت الأم: “بين خروجهم وسماع صوت الانفجار نصف ساعة فقط، ركضت أنا وابنتي روان، كنا نحاول أن نكذب عيوننا التي ترى تصاعد الدخان من حول منزلنا، لكن الخبر سبقنا، جاءني رسول من بعيد، قال أبو محمد مصاب، عرفت وقتها أن ولداي قد استُشهدا، ووقعت من هول الصدمة”.
أما شقيقتهم روان، فركضت بجنون إلى المنزل، رأتهم جثتين هامدتين بين الركام، دخلت في حالة هستيرية، كانت تحاول سحب جثمانيهما بيديها، تصرخ وتبكي وتستنجد طالبة المساعدة، حتى استجاب لها أحد أقاربهم وتمكنا من انتشالهما من بين الأنقاض.
لم تكن تلك العائلة الوحيدة التي ودّعت أبناءها على أمل اللقاء القريب، ولم يعودوا، فبينما كانت أمٌ تراقب خطوات زوجها وابنيها وهم يغادرون المنزل لجلب ما يسد الرمق، كانت عائلة أخرى تعيش الانتظار ذاته، وتخوض الألم نفسه بقلبٍ لا يقلّ وجعًا.
ثمن لقمة العيش
![]()
تدفع العوائل الغزية ثمن لقمة العيش من دماء أبنائها، فحسب الدفاع المدني الفلسطيني، وعلى لسان الناطق باسمه محمود بصل، في حديثه لـ “الجزيرة نت”، كشف عن ارتقاء أكثر من 20 شهيدًا، خلال الأيام القليلة الماضية، وإصابة العشرات بينما كانوا يحاولون فقط الوصول إلى منازلهم لإحضار الطحين والطعام، من المناطق الشرقية لحي الشجاعية والتفاح، وشرق حي الزيتون.
ل. ب