أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى معركة حطين  – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى معركة حطين  – الجزء الأول –

إنّنا اليومَ وفي آخِرِ شهرِ ربيعٍ الآخر، نستذكِرُ مناسبَةً عظيمَةً؛ وذكرَى عزيزَةً، تُفْرِحُ القلبَ وتبعَثُ على الأمَلِ، بعد أن بدأ اليَأْسُ والقنوطُ يدُبَّانِ إلى قلوبِنَا، نتيجَةَ هذه الأوضَاعِ الشّاقَّةِ المؤلمَةِ، والأحداثِ الموجعَةِ الخطيرَةِ، ومشاهِدِ التّخريبِ والتّقتيلِ بأبشَعِ أنواعِ المجازِرِ والمذابِحِ، في أرضِ الرّباطِ والجهادِ، أرضِ الإسراءِ والمعراجِ، فلسطينَ الأبيَّةِ. نَتَذَكَّرُ اليومَ مَعْرَكَةَ حِطِّينَ الَّتِي وقعت أحداثُهَا في يومِ السّبتِ25 من شهرِ ربيعٍ الآخِرِ سنةَ 583هـ، الموافق 4 جويلية 1187م، بقيادَةِ القائِدِ العَابِدِ الزَّاهِدِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ ضِدَّ الصَّلِيبِيِّينَ، الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، بِمَا فِيها المَسْجِدُ الأَقْصَى، وَمَكَثُوا فِيهَا مَا يُقَارِبُ قَرْنًا مِنَ الزَّمَنِ؛ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوا الأَنْفُسَ البريئَةَ، وَذَبَحُوا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ سَبْعِينَ أَلْفًا، حَتَّى بَلَغَتِ الدِّمَاءُ الرُّكَبَ فِي شَوَارِعِ القُدْسِ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، فَتَمَكَّنَ الْيَأْسُ من قُلُوبِ المُسْلِمِينَ، وَظَنَّ الكَثِيرُ منهم أَنْ لَا أَمَلَ فِي النَّصْرِ، وَلَا رَجَاءَ فِي عَوْدَةِ الأَرْضِ إِلَى المُؤمنين، بِمَا فِيهَا الأَقْصَى الْمُبَارَكُ، كَمَا هو حَالُنَا اليَوْمَ، بَلْ اليومَ أَسْوَأُ، نَظَرًا لِكَثْرَةِ المُتَآمِرِينَ وَالمُتَخَاذِلِينَ، وَلَكِن لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُؤُونٌ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ سُبْحَانَهُ، فَقَدْ سَخَّرَ جُنْدًا مِنْ جُنْدِهِ، جَمَعَهُمْ مِنْ أَصقَاعٍ شَتَّى، مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالجَزِيرَةِ وَالعِرَاقِ وَبلدَانِ المَغْرِبِ، تَحْتَ قِيَادَةِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ، الَّذِي حَشَدَ الْعُلَمَاءَ وَالفُقَهَاءَ، يُحَرِّضُونَ المُجَاهِدِينَ عَلَى القِتَالِ، وَاسْتَطَاعَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ لَدَيْهِ آلَافُ المُجَاهِدِينَ، لِيُكَوِّنَ منهم جَيْشًا بَرِّيًّا جَرَّارًا، وَيُنشِئَ أَسْطُولًا بَحْرِيًّا قَوِيًّا، لِتَنْدَلِعَ مَعْرَكَةُ حِطّينَ إِحْدَى أَهَمِّ المَعَارِكِ الفَاصِلَةِ فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ، تِلْكَ المَعْرَكَةُ الَّتِي أَنهَتْ زُهَاءَ تسْعَةِ عُقُودٍ مِنَ الذُّلِّ وَالهَوَانِ وَالتَّشَرْذُمِ وَالاضْمِحْلالِ، وَبِهَا تَيَسَّرَ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدسِ، وَبَعْدَهَا تَهَاوَتِ القِلَاعُ الصَّلِيبِيَّةُ، الَّتِي طَالَمَا أَغَارَتْ عَلَى مَنَاطِقِ المُسْلِمِينَ. وَلنْسْتَمِعْ إلى الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهُوَ يَقُصُّ عَلَيْنَا جانِبًا مِنْهَا فِي كِتَابِهِ “البِدَايَة وَالنِّهَايَة” إِذْ يَقُولُ: “فَتَوَاجَهَ الفَرِيقَانِ، وَتَقَابَلَ الجَيْشَانِ، وَاصْفَرَّ وَجْهُ الإِيمَانِ، وَاغْبَرَّ وَأَقْتَمَ وَجْهُ الكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَدَارَتْ دَائِرَةُ السُّوءِ عَلَى عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الجُمُعَةِ،…إلى أن قال:  وَتَبَارَزَ الشُّجَعَانُ، ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِالتَّكْبِيرِ وَالحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ، فَحَمَلُوا وَكَانَ النَّصْرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، وَأُسِرَ ثَلاثُونَ أَلْفًا مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ جَمِيعُ مُلُوكِهِمْ سِوَى قَوْمَسِ طرَابُلُسَ، فَإِنَّهُ انْهَزَمَ فِي أَوَّلِ المَعْرَكَةِ”، انتهى كلامُ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ.

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر