ورأى الشيخ ابن باديس أنّ العلمَ هو روحُ الأمّةِ وحياتُها؛ فكرّس له حياته ،ووقته، وجهده، وزهد في زخارف الحياة التي أُلقيت بين يديه، ليتفرّغ لواجب التعليم والتبليغ، كما كتبه الله على العلماء؛ فوصل بياض نهاره بسواد ليله ؛مدرّساً ومعلماً، ومربياً ومؤدّباً، وجاب البلاد مؤسّساً الجمعياتِ والمجلّاتِ والجرائدَ والمدارسَ، دون تعب أو مللٍ، كانت غايته سامية؛ فكان الرجلَ العظيمَ للرسالة العظيمة، لذلك ما كان يشعر بالنصب الّذي يصيب عموم الناس.. وهكذا انقضت عشرون عاماً عن وفاته، حتى تحرّرت الجزائر من الاحتلال البغيض، إثر ثورة كان ابتدأها على الجهل، وانتهت بثوره مباركة عارمة على الظلم والظلام، فكان النصر ولله المنّة والحمد. والسؤال -إخوة الإيمان-:ما العلم الذي كان يحرص على نشره، رحمه الله؟. لقد كانت الأمّة يومئذٍ في صراعٍ محتدِم مع مستدمرٍ حاقدٍ؛أراد مسخَ هوية المجتمع؛ وفصلَه عن ماضيه، وقطعَ صلته بدينه وتراثه؛ فكان الواجب الأوّل هو تكثيفَ الجهد لتحصين الهوية وإرساخ أركانها في نفوس الأجيال، حتى تستعصيَ على المسخ والذوبان،سلاحه المضاء في ذلك: العلم والتعليم، كما يقول، رحمه الله: “فإنّنا اخترنا الخطّة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة،وتمسّكنا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا، من النصح والإرشاد، وبث الخير، والثبات على وجه واحد، والسيرعلى خطّ مستقيم. وما كنّا لنجد هذا كلّه إلّافيما تفرّغنا له من خدمة العلم والدين” .
حقّا: إنّ بناء الإنسان الصالح على العلم والإيمان هو حجر الزاوية في أيّ مشروع إصلاحي واعد. وقد صدق إذ قال المعلم: ” لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام، وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم….ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم “. لقد كان شعاره رحمه الله: “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا”.. وقد استلهم بيان أول نوفمبر هذا الشعار ، وكرس في دستور الجزائر المستقلّة.
الجزء الثاني من خطبة للشيخ محمّد مقاتلي