أنوار من جامع الجزائر.. وما أكرمهن إلا كريم – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. وما أكرمهن إلا كريم – الجزء الأول –

إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَخَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ مِنْهُمَا نَسَبًا وَصِهْرًا، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، فقالَ سبحانهُ “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” سورة الإسراء:70. وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ أَنْ جَعَلَ الإِنْسَانَ حَسَنَ الخَلْقِ وَالصُّورَةِ، كما قال تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ” التين:4، وَوَهَبَهُ العِلْمَ وَالعَقْلَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ الكُتُبَ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا، كما قال تعالى “وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الجاثية: 13. وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ التّسويةُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ في التكاليف الدينية والدنيوية، كما قال تعالى:”وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ” البقرة: 228، بَلْ زَادَ دِينُنَا الحَنِيفُ المَرْأَةَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، وَبَوَّأَهَا مَنْزِلَةً كُبْرَى، وَأَحَاطَهَا بِسِيَاجٍ كَبِيرٍ مِنَ الحِفْظِ وَالصَّوْنِ بنتًا وزوجةً وأمًّا؛ وَفي القُرْآنِ الكَرِيمِ وَقفَاتٌ كَثِيرَةٌ خَصَّهَا اللهُ بِهَا فِي عَدِيدِ السُّوَرِ، كَسُورَةِ النِّسَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالنُّورِ وَالأَحْزَابِ وَغَيْرِهَا، كَمَا أَكْرَمَهَا بِسُوَرٍ تُعْطِي أَحْكَامًا لِصَالِحِهَا، كَسُورَةِ المُجَادِلَةِ وَالمُمْتَحَنَةِ.

وسَمَّى سورةً من أطولِ سورِ القرآنِ الكريمِ بسُورَةِ النِّسَاءِ، وَجَاءَتْ سُورَةُ مَرْيَمَ عليها السّلامُ الَّتِي وَصَفَهَا اللّهُ بِالصِّدِّيقَةِ حَامِلَةً اسْمَهَا، رَغْمَ ذِكْرِ أَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ فِيهَا، تَشْرِيفًا لِمَكَانَتِهَا، حَيْثُ تَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ مُنْذُ وِلَادَتِهَا، وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا، ونَسَبَ إِلَيْهَا كَلِمَةً مِنْهُ، ابْنُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. لَقَدْ بَيَّنَ الإِسْلَامُ فضلَ المَرْأَةِ ومَكَانَتَهَا، وأعلى منشأنِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَقِلُّ عَنِ الرَّجُلِ في التّكريمِ والتَّشْرِيفِ، وَلَا في التَّكْلِيفِ وَالمَسْؤُولِيَّةِ،بل هي مُسَاوِيَةٌ له فِي التَّكالِيفِ الشرعيّةِ،كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ”،إلّا ما كان خاصًّا بكلٍّ منهما بمقتضى الفطرَةِ الإنسانيَّةِ أو الطّبيعَةِ البشريَّةِ. ولا فرق بينهما فِي الجَزَاءِ والمثوبة على العمل، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” سورة النحل:97. لَقَدْ كَرَّمَ الإِسْلَامُ المَرْأَةَ أُمًّا، فقال تعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” لقمان: 14، وَجَعَلَها النَّبِيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالمعْرُوفِ، ففي صحيحي البخاري ومسلم “أنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ”، فهي أُمٌّ لَهَا مَقَامٌ كَرِيمٌ، وَحَقٌّ فِي البِّرِّ عَظِيمٌ.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر