-
البنى التحتية القارية.. شرايين جديدة لاقتصاد موحّد
-
تجارة بينية تراهن على إحياء السوق الإفريقية المشتركة
-
تشريعات وتكتلات تدفع نحو اندماج اقتصادي عابر للحدود
من قلب البرلمان الجزائري، وفي يوم نقاش جمع مسؤولين وخبراء ودبلوماسيين أفارقة، عاد ملف التكامل الاقتصادي الإفريقي إلى الواجهة بقوة خلال اليوم البرلماني الذي نظمته لجنة الشؤون الاقتصادية والتنمية والصناعة والتجارة والتخطيط تحت عنوان “رهان التكامل الاقتصادي الإفريقي… نحو شراكة فعّالة”.
اللقاء كان منصة أعادت طرح السؤال الجوهري حول مستقبل القارة: كيف يمكن لإفريقيا أن تنتقل من تجزئة اقتصادية تعرقل نموها، إلى فضاء موحّد قادر على بناء قوته بموارده وبشعوبه؟ لقد بدا واضحا أن مسار الوحدة الاقتصادية بات ضرورة تنموية تفرضها التحولات العالمية وتستدعي رؤية مشتركة تتجاوز الحدود.
البرلمان ينتصر لفكرة التكامل.. حدث يفتح باب المستقبل
جاء اليوم البرلماني ليؤكد أن النقاش حول مستقبل إفريقيا لم يعد حكرا على الحكومات أو الدوائر التنفيذية، وأصبح جزءا من دينامية تشريعية تريد أن تمنح القارة صوتا مؤسساتيا أقوى. فالبرلمان، باعتباره مرآة للخيارات الوطنية والإرادة الشعبية، بدا في هذا اللقاء كفاعل يسعى إلى تحويل التكامل من خطاب عام إلى برنامج عمل تمتد آثاره إلى التشريعات والبنى الاقتصادية. ومع توافد المسؤولين والخبراء ورؤساء الهيئات الاقتصادية والدبلوماسيين الأفارقة، اتضح أن الرهان أكبر من مجرد تبادل للآراء؛ إنه بحث جماعي عن أرضية جديدة تلتقي فيها تجارب الدول وتطلعات الشعوب. هذا الحضور المتنوع أعطى للقاء بعدا قاريا، ليصبح مساحة تفاعلية تعكس رغبة إفريقية مشتركة في صياغة نموذج اقتصادي لا يستنسخ تجارب الآخرين بل ينسجم مع خصوصيات القارة. كما شكّل الحدث فرصة لإعادة طرح السؤال العالق منذ عقود: لماذا بقيت إفريقيا، رغم ثرواتها الهائلة، أقل القارات تكاملا اقتصاديا؟ وفي كل مداخلة كان يظهر أن المشكلة ليست في الإمكانيات، بل في غياب الجسور المؤسسية التي تجمع هذه الإمكانيات في قوة موحدة. وهنا بدأ يتبلور الوعي بأن التكامل ليس “تمنيا” بل مسارا يحتاج إلى قرار سياسي وإرادة تشريعية وآليات تنفيذ. ومع هذا الإدراك، برزت قناعة واضحة خلال اللقاء بأن مستقبل إفريقيا يُبنى برؤية استراتيجية موحدة تشارك فيها الحكومات والبرلمانات والفاعلون الاقتصاديون. ومن هنا كان الانتقال الطبيعي نحو نقطة محورية: البنى التحتية، تلك الشرايين التي يمكن أن توحّد القارة فعليا قبل أن يتوحّد اقتصادها على الورق.
بنى تحتية تربط القارة.. من الطرق إلى الألياف البصرية
إذا كان النقاش البرلماني قد أضاء أهمية الإرادة السياسية والمؤسساتية، فإن المرحلة التالية في مسار التكامل الإفريقي تتعلق بالبنى التحتية التي تشكل الأساس المادي لأي وحدة اقتصادية حقيقية. فالقارة التي تمتد آلاف الكيلومترات شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، لا يمكن أن تحقق تجارة داخلية فاعلة أو حركة رؤوس أموال سلسة دون شبكات نقل وطاقـة واتصال تربط أجزاءها ببعضها. وهنا برزت مشاريع الطرق العابرة للحدود بوصفها العمود الفقري لهذا التحوّل، إذ تُسهم في تقليص المسافات، وتسهيل تدفّق السلع، وكسر العزلة التي طالما عانت منها مناطق واسعة. ولم يتوقف الحديث عند الطرق البرية، بل امتد إلى الربط الطاقوي بين الدول الإفريقية، باعتباره أحد أهم مفاتيح التكامل. فالطاقة شرط رئيسي لولادة الصناعات المحلية، وجذب الاستثمارات، وتقليل الفجوة بين الدول من حيث القدرة الإنتاجية. ومع وجود مشاريع كبرى في مجالات الكهرباء والغاز والطاقة المتجددة، يبدو أن إفريقيا تمتلك اليوم فرصة عملية للانتقال من الاستهلاك المتقطع إلى شبكة قارية مترابطة تمنح التنمية قاعدة صلبة. أما الألياف البصرية، فقد احتلت موقعا متقدما في النقاش بوصفها “طريق المستقبل” ورافعة الاقتصاد الرقمي الذي بات أساسا لتنافسية الدول. فدون اتصال واسع وسريع، لن تستطيع القارة تطوير التجارة الإلكترونية، ولا بناء مؤسسات ناشئة قادرة على الإبداع، ولا دمج ملايين الشباب في اقتصاد المعرفة. إن توسيع شبكات الإنترنت ضرورة تنموية تضاهي في أهميتها بناء الطرق والسكك الحديدية. ومع هذا الاتساع في البعد البنيوي، بدا واضحاً أن القارة تمتلك كل شروط الانتقال نحو مستوى أعلى من التعاون الاقتصادي. وهنا كان الانتقال الطبيعي إلى سؤال آخر لا يقل محورية: كيف يمكن لهذه البنى التحتية أن تُترجم إلى مبادلات تجارية أقوى بين دول القارة، في وقت لا تزال فيه التجارة البينية الإفريقية واحدة من الأضعف عالمياً؟
تجارة بينية ضعيفة.. وكيف يمكن تحويلها إلى قوة قارية
رغم الإمكانيات الهائلة التي تمتلكها القارة الإفريقية، ما تزال التجارة البينية واحدة من أدنى المعدلات عالمياً، وهو ما يشكل عقبة حقيقية أمام بناء اقتصاد إفريقي موحّد. ففي كثير من الحالات، تتجه الدول الإفريقية نحو أسواق بعيدة لتستورد منتجات يمكن أن تحصل عليها من دول الجوار، فقط لأن الجسور التجارية لا تزال ضعيفة والمعايير غير موحدة وشبكات النقل غير مكتملة. هذه المفارقة هي جوهر الإشكال الذي أعاد اليوم البرلماني طرحه بصراحة: لا يمكن لقارة بهذه الثروات أن تبقى رهينة التبادل الخارجي بينما تملك سوقاً داخلية قادرة على خلق طفرة اقتصادية غير مسبوقة. وتظهر التحديات أكثر وضوحاً عند النظر إلى الحواجز الجمركية التي تختلف من بلد إلى آخر، وإلى الأنظمة القانونية المتباينة التي تجعل عبور البضائع بين الدول معقداً ومكلفاً. كما أن غياب معايير موحّدة للجودة، وضعف ممرات النقل، وغياب مناطق لوجستية متطورة، كلها عوامل تبطئ حركة التجارة وتجعل الإنتاج المحلي أقل قدرة على الانتشار داخل القارة. كل ذلك يعمق الفجوة بين الإمكانيات المتاحة والنتائج المحققة، ويجعل التكامل مساراً بطيئاً رغم الحاجة الملحّة إليه. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية (AfCFTA) كأكبر مشروع اقتصادي يجمع أكثر من مليار نسمة في سوق واحدة. فهذه المبادرة لا تسعى فقط لخفض الرسوم الجمركية، بل تهدف إلى إعادة رسم خريطة المبادلات داخل القارة، وخلق مناطق صناعية مشتركة، وتطوير سلاسل قيمة إفريقية تستوعب الإنتاج المحلي من المواد الأولية إلى الصناعات التحويلية. إنها خطوة استراتيجية نحو قارة أكثر استقلالاً عن التقلبات الخارجية وأكثر قدرة على بناء اقتصادها بيد أبنائها. ومع هذا الطموح الإقليمي، بدا الانتقال نحو البعد المؤسساتي أمراً حتمياً. فالتجارة البينية لن تتطور سريعاً دون منظومة تشريعية تواكب الاتفاقيات وتحول المبادئ الكبرى إلى آليات تنفيذ ملموسة. وهنا يبرز الدور المتنامي للبرلمانات الإفريقية، ليس فقط في المصادقة على الاتفاقيات، بل في صياغة القوانين التي تجعل التكامل ممارسة يومية لا مجرد مشروع سياسي طويل الأمد. ومن هذا الباب، كانت الانطلاقة نحو المحور التالي: الدبلوماسية البرلمانية ودورها في صناعة الاندماج الاقتصادي.
الدبلوماسية البرلمانية.. تشريعات تصنع الاندماج
لم تعد الدبلوماسية اليوم حكراً على الحكومات ووزارات الخارجية، فالمشهد الإفريقي يشهد تقدّمًا واضحًا للدور البرلماني في دعم الاندماج القاري. ويأتي هذا التوسع انسجامًا مع إدراك متزايد بأن مستقبل إفريقيا الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق دون أطر قانونية مشتركة تُسهِّل حركة السلع والخدمات والاستثمارات. وهنا يظهر البرلمان كفاعل مؤسسي قادر على تحويل الرؤية السياسية إلى منظومة تشريعية تتجاوز الحدود وتوحّد القواعد الاقتصادية بين الدول. وتبرز أهمية هذا الدور في كون الاتفاقيات القارية، مهما كانت طموحة، تبقى بلا تأثير فعلي إذا لم تُترجم إلى قوانين داخلية قابلة للتطبيق. فتكامل الأسواق، وتسهيل التجارة، والتحفيز الضريبي، وتوحيد معايير الجودة، كلها رهانات تتطلب منظومة تشريعية متناغمة. ومن دون هذا التجانس، تتحول مشاريع التكامل إلى نصوص جميلة على الورق، يصعب تنفيذها على أرض الواقع. ولهذا، كان النقاش البرلماني الذي شهدته الجزائر بمثابة دعوة لتسريع تفعيل القوانين الداعمة للتعاون الاقتصادي القاري. كما أن الدور الرقابي للبرلمانات يشكل أحد مفاتيح الدفع نحو تكامل أكثر فعالية. فالمشاريع الكبرى في النقل والطاقة والاتصالات تحتاج إلى متابعة دقيقة لضمان تنفيذها وفق المعايير المعلنة، ولتجاوز العراقيل التي قد تظهر على طول مساراتها. هذا البعد الرقابي يمنح البرلمانات قدرة على تقييم السياسات الاقتصادية ومساءلة الجهات المنفذة، ما يعزز مصداقية مسار الاندماج ويدفع الحكومات إلى احترام التزاماتها. ومع توسع الدور البرلماني، تبرز ضرورة تنسيق تشريعي عابر للحدود، يسمح للدول باعتماد قواعد مشتركة تسهّل الاندماج. إن التكامل الاقتصادي لا يُبنى فقط بالبنى التحتية، بل أيضًا بالمنظومات القانونية التي تضبط حركة الاقتصاد وتمنح المستثمرين الثقة. ومن هنا كان الانتقال الطبيعي نحو رؤية أشمل لمستقبل القارة: إفريقيا التي تتحول تدريجيًا إلى كتلة اقتصادية واحدة، تمتلك قوة تفاوضية أكبر وقدرة على مواجهة التقلبات العالمية بصلابة أكبر.
إفريقيا ككتلة واحدة.. اقتصاد موحّد يقهر التقلبات العالمية
تبدو القارة الإفريقية اليوم أمام مفترق طرق حاسم؛ فبين ثرواتها الطبيعية الهائلة التي تجعلها واحدة من أغنى المناطق في العالم، وبين تحديات التنمية التي رافقتها لعقود، يبرز خيار الاتحاد الاقتصادي كفرصة استراتيجية لإعادة تشكيل مستقبلها. فإفريقيا التي تمتلك أكبر الاحتياطات في المعادن والطاقات المتجددة والأراضي الزراعية، ليست بحاجة سوى إلى إطار موحّد يسمح لهذه الثروات بأن تتحول إلى قوة إنتاجية مشتركة تعزز مكانتها في السوق العالمية وتكسر التبعية الاقتصادية التي أنهكت الكثير من دولها. ولا تقتصر عناصر القوة على الموارد الطبيعية، بل تشمل الثروة البشرية الإفريقية التي تشكّل ما يقارب 60 بالمائة من سكان القارة تحت سن الخامسة والعشرين، ما يجعلها القارة الأكثر شباباً في العالم. هذا المورد البشري الهائل، إذا وجد بيئة اقتصادية متكاملة، قادر على إطلاق طفرة في الابتكار والصناعات الناشئة والتكنولوجيا، وهو ما بدأت ملامحه تظهر في العديد من الدول التي تبنّت برامج تطوير المؤسسات الناشئة والاقتصاد الرقمي. إن تحويل طاقات الشباب إلى محرك للتنمية هو قلب مشروع التكامل الحقيقي. كما يمنح التكامل الاقتصادي القارة قوة تفاوضية لا يمكن تجاهلها. فبدل أن تتعامل الدول منفردة مع تكتلات اقتصادية كبرى مثل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو الصين، يمكن للسوق الإفريقية الموحدة أن تشكل تكتلاً عملاقاً يفوق مليار نسمة، ما يجعلها أكثر قدرة على التفاوض بشروط عادلة، وجذب الاستثمارات الكبرى، وفرض مصالحها ضمن اقتصاد عالمي شديد التقلب. بهذه الطريقة، يتحول التكامل من مشروع تنموي إلى مشروع سيادي يهدف إلى حماية القرار الاقتصادي الإفريقي. وتقود هذه الرؤية الشاملة نحو خلاصة واضحة مفادها أن مستقبل إفريقيا سيكون واحداً إذا اختارت أن تكون واحدة. فالتكامل ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل هو تصور شامل لقارة تستعيد مكانتها وتوظّف إمكانياتها لخلق فضاء تنموي متضامن ومستقل. ومع تصاعد المبادرات القارية، وتزايد الوعي بضرورة العمل المشترك، يبدو أن القارة تسير بخطى ثابتة نحو بناء كتلة اقتصادية موحدة قادرة على مواجهة تحديات الغد وفتح آفاق أرحب لأجيالها القادمة.







































