أنوار من جامع الجزائر

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا – الجزء الأول –

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا – الجزء الأول –

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ أَجَلِّ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى هٰذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، نِعْمَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ كَمَالِ هٰذِهِ الْمِنَّةِ وَتَمَامِ هٰذِهِ الْعَــطِــيَّــةِ أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، لَا أَعْجَمِيًّا وَلَا دَخِيلًا، لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ، وَأَبْلَغَ فِي الْبَيَانِ، وَأَرْسَخَ فِي الْقُلُوبِ. قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” يُوسُف: 2، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: “بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ” الشُّعَرَاء: 195، فَكَانَ فِي عَرَبِيَّتِهِ شَرَفُ الرِّسَالَةِ، وَفِي بَيَانِهِ إِعْجَازُ الْهِدَايَةِ، وَفِي أَلْفَاظِهِ نُورٌ يَهْدِي الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ. أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللُّغَةَ هِيَ رُوحُ الْأُمَّةِ، وَعَقْلُهَا، وَذَاكِرَتُهَا، وَسِجِلُّ تَارِيخِهَا، وَوِعَاءُ حَضَارَتِهَا؛ فَبِاللُّغَةِ تُبْنَى الْأَفْكَارُ، وَبِاللُّغَةِ تُصَاغُ الْقِيَمُ، وَبِاللُّغَةِ تُحْفَظُ الْعَقَائِدُ، وَبِفَسَادِ اللُّغَةِ يَفْسُدُ الْفِكْرُ، وَبِضَيَاعِهَا تَضِيعُ الْأُمَّةُ. وَمَا مِنْ أُمَّةٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ ضَعُفَتْ لُغَتُهَا إِلَّا ضَعُفَ سُلْطَانُهَا، وَلَا فَرَّطَتْ فِي لِسَانِهَا إِلَّا فَرَّطَتْ فِي هُوِيَّتِهَا، وَلَا حَضَارَةٍ قَامَتْ عَلَى أَرْضٍ إِلَّا قَامَتْ أَوَّلًا عَلَى لُغَةٍ حَيَّةٍ يَتَعَلَّمُ بِهَا أَبْنَاؤُهَا، وَيُفَكِّرُونَ بِهَا، وَيُبْدِعُونَ بِهَا. أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ ضَعْفَ اللُّغَةِ لَيْسَ مَسْأَلَةً لُغَوِيَّةً فَقَطْ، بَلْ هُوَ ضَعْفٌ فِي الْإِبْدَاعِ، وَضَعْفٌ فِي الْإِنْتَاجِ، وَضَعْفٌ فِي الِاسْتِقْلَالِ الْحَضَارِيِّ. الْأُمَّةُ الَّتِي تُفَكِّرُ بِلِسَانِ غَيْرِهَا، تَظَلُّ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا، وَالْأُمَّةُ الَّتِي تَكْتُبُ بِعَقْلِ غَيْرِهَا، لَا تَصْنَعُ مُسْتَقْبَلَهَا بِيَدِهَا، وَإِنَّ دَلَائِلَ التَّارِيخِ، قَدِيمِهِ وَحَدِيثِهِ، تَشْهَدُ شَهَادَةً جَلِيَّةً لَا لُبْسَ فِيهَا أَنَّهُ مَا نَهَضَتْ أُمَّةٌ، وَلَا ازْدَهَرَتْ حَضَارَةٌ، إِلَّا حِينَ كَانَتِ الْعُلُومُ تُبْنَى بِلِسَانِ الْأُمَّةِ نَفْسِهَا، لَا بِلُغَةٍ دَخِيلَةٍ عَنْهَا. عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ فَضْلَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ فَضْلَ قَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ، وَلَا عِرْقٍ عَلَى عِرْقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اخْتِيَارٍ إِلٰهِيٍّ، اخْتَارَهَا اللَّهُ لِآخِرِ كُتُبِهِ، وَجَعَلَهَا لِسَانَ وَحْيِهِ، وَرَبَطَ بِهَا فَهْمَ دِينِهِ؛ فَلَا صَلَاةَ بِلَا قُرْآنٍ، وَلَا قُرْآنَ بِلَا عَرَبِيَّةٍ، وَلَا فَهْمَ لِلدِّينِ بِلَا فَهْمٍ لِلْعَرَبِيَّةِ. وَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لَيْسَتْ لُغَةَ الْقُرْآنِ فَقَطْ، بَلْ هِيَ لُغَةُ السُّنَّةِ، وَلُغَةُ التَّشْرِيعِ، وَلُغَةُ الْفِقْهِ، وَلُغَةُ الْعَقِيدَةِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَفْهَمُ الْقرآنَ دُونَ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْعَرَبِيَّةِ اسْتَهَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِفَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ ﷺ. وَلِهٰذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ، وَتُثَبِّتُ الْعَقْلَ”.  وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ”. وَكَتَبَ رضي الله عنه إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: “أَمَّا بَعْدُ، فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ”. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: “أَصْلِحُوا أَلْسِنَتَكُمْ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ تَنُوبُهُ النَّائِبَةُ، فَيَسْتَعِيرُ الثَّوْبَ وَالدَّابَّةَ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَعِيرَ اللِّسَانَ، وَجَمَالُ الرَّجُلِ فَصَاحَتُهُ”. أَيُّهَا الأَحِبَّابُ: إِنَّ حُبَّ العَرَبِيَّةِ لَيْسَ تَعَصُّبًا، بَلْ هُوَ مِنْ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ؛ لِأَنَّهَا الطَّرِيقُ إِلَى فَهْمِ الوَحْيِ، وَتَذَوُّقِ الإِعْجَازِ، وَالخُشُوعِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَمَنْ أَحَبَّ القُرْآنَ أَحَبَّ لِسَانَهُ، وَمَنْ عَظَّمَ الوَحْيَ عَظَّمَ لُغَتَهُ.

 

الجزء الاول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر