-
الاحتلال يستهدف إسكات الأصوات الحرة لترسيخ السردية الإعلامية الصهيونية
-
الجزائر ترفض استهداف الصحفيين وتدعو لتحرك دولي عاجل
في صباح ثقيل على غزة وأحرار العالم، دوّى خبر استشهاد الصحفي الفلسطيني، أنس الشريف، وثلاثة من زملائه قرب مستشفى الشفاء، ليضيف الاحتلال “حلقة جديدة إلى مسلسل استهداف ممنهج” رفع عدد الصحفيين الذين ارتقوا منذ 7 أكتوبر 2023 إلى 238 شهيدا، في “أكبر حصيلة يشهدها تاريخ النزاعات المسلحة”.
اغتيال أنس الشريف محاولة يائسة لإسكات “منبر الحقيقة الذي فضح جرائم الإبادة والتجويع والتهجير”. وفي خضم هذه الفاجعة، جاء الموقف الجزائري ثابتا وواضحا، إذ تلاقت أصوات الأحزاب والمنظمات والنقابات على رفض تحويل الصحافة إلى هدف عسكري، وتأكيد أن الجزائر ستظل “حارس الكلمة الحرة” والمدافع عن حق الصحفيين في نقل الحقيقة، خاصة في ساحات المواجهة مع الاحتلال. ولد أنس الشريف عام 1996 في مخيم جباليا بقطاع غزة، في بيئة مشبعة برائحة الحصار وأصوات القصف، فحمل منذ بداياته إحساسا مبكرا بضرورة توثيق ما يجري حوله. التحق مبكرا بالمجال الإعلامي، ووجد في العمل الميداني وسيلة لنقل الحقيقة من قلب الحدث إلى العالم، بعيدا عن الصياغات الباردة التي قد تفقد المأساة إنسانيتها. خلال سنوات عمله، برز الشريف كأحد الوجوه الشابة التي استطاعت أن تجمع بين المهنية العالية والشجاعة النادرة، مقدّما تقارير مباشرة من خطوط التماس، حيث تصبح الكلمة والصورة رهينة ثانية واحدة بين الحياة والموت. أنس كان شاهدا على تفاصيل المأساة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون، يصوغها بعدسته وكلماته في سردية مقاومة للتعتيم الإعلامي. غطّى مجازر الاحتلال، ووثق آثار القصف العشوائي، وسلط الضوء على معاناة النازحين في المدارس والمستشفيات المزدحمة، وعلى مشاهد الأطفال المحرومين من أبسط مقومات الحياة. إصراره على الاقتراب من نقاط الخطر لم يكن تهورا، وإنما إيمانا بأن الصورة الحقيقية لا تُلتقط إلا من قلب المشهد، حيث تتكثف كل أبعاد المأساة. هذا الحضور الميداني المتميز جعل أنس عرضة لتهديدات متكررة من الاحتلال، لكنه ظل متمسكا بخطه التحريري ومبدأه في أن “الصحفي لا يملك ميزة الصمت أمام الجريمة”. كثيرا ما ظهر في تقاريره محاطا بالدخان والركام، يتحدث بصوت ثابت عن قصف لم ينقطع أو عن حصار يشتد، وكأنه أراد أن يكون جزءا من ذاكرة غزة الحية، تلك التي تُكتب بالكاميرا والقلم معا. وفي كل مرة، كان يخرج ليواصل عمله، وكأن الخطر بالنسبة له هو التوقف عن التوثيق، لا البقاء تحت النيران. وجاء يوم الفاجعة، ليضع حدا لمسيرة صحفي شاب أدرك منذ البداية أن مهنته محفوفة بالموت، لكنه اختار أن يمضي فيها حتى النهاية. حين استهدفت طائرات الاحتلال خيمة الصحفيين قرب مستشفى الشفاء، لم يكن أنس وحده، بل كان إلى جانب زملائه محمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومحمد نوفل، في لحظة تحولت فيها الكاميرا إلى شاهد صامت على جريمة جديدة. بهذا الاستشهاد، خسر الإعلام العالمي شاهدا كان قادرا على نقل الحقيقة من قلب الحصار، في زمن تتضاعف فيه محاولات طمس الرواية الفلسطينية.
غزة.. مقبرة الصحفيين في القرن الحادي والعشرين
استشهاد أنس الشريف وزملائه هو جزء من مشهد دموي ممتد جعل من غزة “أخطر بقعة في العالم على حياة الصحفيين”. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، ارتقى 238 صحفيا في القطاع، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ النزاعات المسلحة، وفق ما تؤكده منظمات حقوقية وإعلامية دولية. هذا الرقم يختزل حجم الخطر الذي يعيشه كل من يحمل الكاميرا أو الميكروفون في غزة، حيث تحولت مهام التغطية الإخبارية إلى مهمة شبه انتحارية. عند مقارنة هذه الحصيلة بمثيلاتها في الحروب والصراعات السابقة، يتضح أن استهداف الصحفيين في غزة يتجاوز بكثير أي سابقة معروفة. ففي نزاعات كبرى مثل حرب العراق أو حرب البوسنة، كان عدد الضحايا من الصحفيين أقل بكثير رغم شدة المعارك، وهو ما يعكس الطابع الممنهج لهذه السياسة في غزة. فالاحتلال يستهدف البنية التحتية والمناطق السكنية، ويضع أيضا الطواقم الإعلامية ضمن قائمة الأهداف، وكأن الكلمة الحرة والصورة الحقيقية باتت أخطر عليه من أي سلاح. هذا النهج الممنهج لاستهداف الصحفيين يهدف إلى أكثر من إسكات الأصوات المحلية؛ إنه محاولة لفرض “صمت قسري” على السردية الفلسطينية ومنع وصولها إلى الرأي العام العالمي. فالصور التي يلتقطها صحفيو غزة، والمشاهد التي يوثقونها رغم الخطر، قادرة على قلب المزاج الدولي، وكشف حجم الجرائم والانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون. ولذلك، يتحرك الاحتلال بسرعة لاستهداف كل من يملك القدرة على نقل هذه الحقائق، في محاولة لفرض روايته الأحادية عن الحرب. ورغم هذه الظروف القاسية، يواصل الصحفيون في غزة أداء واجبهم، وكأنهم في سباق مع الزمن لتوثيق أكبر قدر ممكن من الحقائق قبل أن تطالهم يد الغدر. استشهاد 237 منهم خلال أقل من عام لم يوقف تدفق الصور والقصص، وزادها قوة وإصرارا. وفي هذا الإصرار، تكمن رسالة واضحة للعالم: أن غزة، رغم كل محاولات عزلها، لن تصمت، وأن مقبرة الصحفيين هذه هي في الوقت ذاته منبر الحقيقة الذي يحاول الاحتلال هدمه دون جدوى.
الجزائر.. موقف ثابت ودعوة للتحرك الدولي
وفي مواجهة هذا المشهد الدموي الذي جعل من غزة مقبرة للصحفيين، تبرز الجزائر كعادتها بصوت واضح وحاد، مجددة تمسكها بموقفها التاريخي في الدفاع عن القضية الفلسطينية وحرية الكلمة. فاغتيال أنس الشريف وزملائه، أثار موجة واسعة من الإدانات في الساحة الجزائرية، شملت أحزابا سياسية ومنظمات مهنية ونقابات إعلامية، جميعها وصفت الجريمة بأنها “استهداف ممنهج لإسكات صوت الحقيقة”، ودعت إلى تحرك عاجل على المستويين الإقليمي والدولي. هذه المواقف انسجمت مع سجل طويل للجزائر في رفض استهداف المدنيين والصحفيين، والتصدي لكل محاولات طمس الحقيقة. حركة مجتمع السلم، على سبيل المثال، اعتبرت اغتيال أنس الشريف “جريمة مخطط لها” تستهدف حجب ما يرتكبه الاحتلال من مجازر، مشيرة إلى أن حصيلة الشهداء الصحفيين منذ أكتوبر 2023 تشكل فضيحة أخلاقية غير مسبوقة في التاريخ الحديث. أما المنظمة الوطنية للصحفيين الجزائريين، فقد ذهبت أبعد من ذلك، ووصفت ما جرى بأنه “جريمة حرب كاملة الأركان”، مؤكدة أن استهداف الصحفيين يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني، وأن الصمت الدولي أمام هذه الجرائم يمثل تواطؤا مرفوضا. وفي السياق ذاته، شددت حركة البناء الوطني على أن ما يحدث في غزة هو “استهداف ممنهج للطواقم الصحفية”، مشيدة بتضحياتهم التي أسهمت في تحريك الرأي العام العالمي، وداعية إلى توحيد الجهود لمحاسبة الاحتلال في المحاكم الدولية. وحتى الأحزاب ذات الطابع المدني، مثل جيل جديد وحزب العمال، لم تتردد في تبني خطاب واضح يدين الاحتلال ويصف أنس الشريف بأنه “صوت المعذبين فوق الأرض”، معتبرة أن ذكراه ستظل رمزا للمقاومة الإعلامية وفضح الجرائم. هذا التلاقي في المواقف، على اختلاف مشاربها السياسية، يعكس وحدة الموقف الجزائري تجاه فلسطين، ويبرز إدراكا عميقا لأهمية الإعلام كجبهة من جبهات النضال. فالجزائر تنظر إلى اغتيال الصحفيين في غزة كجزء من حرب شاملة على الحق والحقيقة. ومن هنا، جاء خطابها متكاملا: إدانة الجريمة، المطالبة بحماية الصحفيين، والدعوة إلى محاسبة مرتكبيها، مع التأكيد أن السكوت الدولي على هذه الجرائم لن يغيّر من التزام الجزائر الثابت بنصرة القضية الفلسطينية بكل أبعادها السياسية والإنسانية.
الصحافة في زمن الإبادة.. الكاميرا كسلاح مقاومة
وفي بيئة حرب الإبادة التي يعيشها قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، تحولت الصحافة من مجرد مهنة لنقل الأخبار إلى خط دفاع أول عن الحقيقة، وأصبحت الكاميرا بمثابة “سلاح مقاومة” لا يقل أهمية عن أي أداة أخرى في مواجهة الاحتلال. فالمشاهد التي ينقلها الصحفيون الفلسطينيون من قلب الدمار والحصار، تعكس قدرة الكلمة والصورة على اختراق الجدران السياسية والإعلامية التي يحاول الاحتلال تشييدها. هذه القدرة على نقل الحدث من موقعه المباشر جعلت من العمل الصحفي هدفا مباشرا لآلة الحرب الصهيونية، التي تدرك أن الصورة الصادقة قادرة على فضح جرائمها في لحظة واحدة. لقد أثبتت تجربة غزة أن الإعلام الميداني هو خط الدفاع الأقوى في مواجهة التضليل الإعلامي، حيث يتحرك الصحفيون بين الركام والمستشفيات والملاجئ، موثقين كل تفصيل من تفاصيل الحياة والموت. ولأنهم لا يملكون سوى الكاميرا والقلم، فإنهم يحولون أدواتهم إلى شهادة حية على جرائم الاحتلال، في وقت يحاول فيه هذا الأخير فرض روايته عبر القنوات الدولية. هنا، يصبح الصحفي جزءا من المشهد الذي يغطيه، لا كمراقب من بعيد، وإنما كفاعل يتقاطع مصيره مع مصير الضحايا الذين يوثق مأساتهم. لكن هذه المهمة النبيلة، تأتي بثمن باهظ؛ فالصحفيون في غزة يعملون في ظروف تكاد تنعدم فيها معايير السلامة، من انقطاع الاتصالات والكهرباء، إلى القصف العشوائي الذي لا يميز بين مقاتل ومدني، أو بين طبيب وصحفي. ورغم كل ذلك، يختارون البقاء في الميدان، مدفوعين بإحساس عميق بالمسؤولية تجاه شعبهم وحق العالم في معرفة الحقيقة. إن استمرار عملهم رغم فقدان المئات من زملائهم، هو بحد ذاته رسالة تحدٍّ للاحتلال ورسالة أمل لشعوب العالم بأن صوت المظلومين لن يُخمد. إن استشهاد أنس الشريف وزملائه، وما خلفه من صدمة في الأوساط الإعلامية والحقوقية، يختصر هذه الحقيقة المؤلمة: في غزة، الصحفي يعيش القصة بكل تفاصيلها ومخاطرها. ولذلك، فإن الكاميرا في زمن الإبادة وثيقة تاريخية وصرخة إنسانية، تضمن أن الجرائم لن تُنسى، وأن الرواية الفلسطينية ستظل حاضرة في وجه كل محاولات الطمس والتزييف. استشهاد أنس الشريف ورفاقه، يكشف عن حقيقة مرة مفادها أن الاحتلال يخشى السلاح ويخشى أيضا الكلمة الحرة والصورة الصادقة التي تكسر حصاره للرواية وتفضح جرائمه أمام العالم. فحصيلة 238 صحفيا شهيدا منذ أكتوبر 2023، رقم قياسي في تاريخ النزاعات المسلحة، وشهادة دامغة على أن ما يجري في غزة هو حرب على الحقيقة بقدر ما هو حرب على الإنسان. وفي مواجهة هذا المشهد الدموي، يظل الموقف الجزائري ثابتا، يرفض تحويل الصحافة إلى هدف عسكري، ويطالب بحماية حاملي الرسالة الإعلامية ومحاسبة القتلة، انسجاما مع رسالته التاريخية في الدفاع عن القضايا العادلة وحرية الكلمة. لكن المعركة لم تنتهِ عند حدود الفاجعة، بل تمتد إلى المستقبل، حيث يصبح لزامًا على المجتمع الدولي أن يثبت أن القوانين والمعاهدات التي تحمي الصحفيين ليست مجرد نصوص معطلة. إن دماء أنس الشريف وزملائه، وصورهم التي ملأت شاشات العالم، تضع الجميع أمام اختبار أخلاقي وسياسي: إما الانحياز للحقيقة ومحاسبة المجرمين، أو القبول بأن تكون الصحافة مهنة محفوفة بالموت في القرن الحادي والعشرين. وفي هذا الاختبار، ستظل الكاميرا في غزة، مهما غاب حاملوها، عصية على الصمت.