-
سبعة رؤساء وزراء في عهد ماكرون.. وأزمة حكم تتجدد مع كل تعديل
-
برلمان منقسم ومعارضة متأهبة.. والإليزيه يفقد زمام المبادرة
-
ماكرون يترنّح بين ضغط المعارضة وغضب الشارع
في مشهد سياسي يعكس عمق الارتباك داخل مؤسسات الجمهورية الخامسة، وجد الفرنسيون أنفسهم أمام استقالة مفاجئة لرئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو، بعد ساعات فقط من إعلان تشكيل حكومته الجديدة، في خطوة نادرة تكشف حجم المأزق الذي يعيشه الإليزيه منذ أشهر.
استقالة لوكورنو، جاءت لتُكرّس واقعا سياسيا مأزوما يختزل مأساة التوازنات الهشّة، داخل برلمان منقسم على ذاته، ورئاسة تبحث عن شرعية متجددة وسط معارضة متربّصة وشارع يغلي من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وبينما تتكاثر الحكومات وتسقط تباعا، يتزايد السؤال حول ما إذا كانت فرنسا تواجه أزمة حكم مؤقتة، أم أزمة نظام عميقة تهدّد أسس الاستقرار السياسي في واحدة من أعرق الدول الأوروبية.
من الاستقالة إلى المأزق: حكومة تولد ميتة
شكلت استقالة سيباستيان لوكورنو صدمة سياسية مدوية في الأوساط الفرنسية وكشفت هشاشة البناء الحكومي في عهد إيمانويل ماكرون، الذي وجد نفسه مرة أخرى أمام مشهد مألوف: رئيس وزراء يرحل قبل أن يبدأ، وبرلمان يستعد لرفع بطاقات حجب الثقة، ومعارضة تتربص بكل مبادرة جديدة، فبعد ساعات من الإعلان عن تشكيلة الحكومة، ألقى لوكورنو المنديل، مُعلنا عجزه عن مواجهة واقع سياسي منقسم لا يسمح بولادة حكومة قادرة على العمل أو التوافق. هذه النهاية السريعة لرجل جاء بوعود التغيير العميق، تعكس مأزقا أعمق من مجرد استقالة؛ إنها علامة على انسداد مؤسسي يطال آلية تشكيل السلطة التنفيذية نفسها في ظل غياب أغلبية مستقرة. لقد حاول ماكرون، عبر لوكورنو، إعادة خلط الأوراق السياسية وبعث رسائل تهدئة إلى البرلمان، لكن النتائج جاءت عكسية؛ إذ بدت التشكيلة الجديدة استمرارا للنهج القديم، واحتفظت بنفس الوجوه التي فقدت ثقة الشارع والمعارضة معا. وبذلك، تحوّلت الحكومة من بارقة أمل في “عهد ثالث” إلى نسخة باهتة من حكومات فشلت في إدارة التوازنات بين التقشف والعدالة الاجتماعية. ولعلّ المفارقة الأبرز أنّ رئيس الوزراء المستقيل كان قد تعهّد بـ”إصلاح عميق” فور توليه المنصب، غير أنّه اصطدم بحقيقة أنّ العمق المطلوب ليس في السياسات وحدها، وإنما في إعادة بناء الثقة بين الدولة وممثليها. تأتي هذه الاستقالة لتُعيد إلى الواجهة سؤال القيادة داخل الإليزيه، إذ يُتّهم ماكرون منذ سنوات بإفراغ منصب رئيس الوزراء من محتواه، وتحويله إلى منصب تنفيذي تابع لا شريك في القرار. وقد ساهم هذا التمركز حول شخصية الرئيس في إضعاف الحكومات المتعاقبة، وجعل رؤساء الوزراء واجهات لصراعات سياسية واقتصادية متداخلة، يُضحّى بهم مع أول أزمة. فلوكورنو، الذي كان من أقرب المقرّبين إلى ماكرون، وجد نفسه في موقع العاجز عن تمرير رؤيته وسط ضغوط من البرلمان والمعارضة والرأي العام، ما جعل استقالته نتيجة منطقية لواقع لا يُحتمل.
برلمان منقسم.. وسلطة بلا أغلبية
ومنذ الدعوة إلى الانتخابات التشريعية المبكرة، لم تهدأ العاصفة داخل قصر بوربون، حيث أصبح البرلمان الفرنسي مرآةً تعكس الانقسام الحاد في المجتمع، ومختبرا يوميا لتجاذبات أيديولوجية عطّلت العمل التشريعي وأرهقت الحكومات المتعاقبة. فبعد أن فقد حزب الرئيس إيمانويل ماكرون أغلبيته المريحة، دخلت البلاد مرحلة غير مسبوقة من “اللااستقرار البرلماني”، حيث لا تملك أي كتلة القوة الكافية لتمرير القوانين أو تشكيل حكومة دون اللجوء إلى تحالفات ظرفية هشة سرعان ما تتفكك عند أول اختبار حقيقي. هذا الانقسام الثلاثي بين اليمين المتطرف، واليسار الراديكالي، وكتلة الوسط الموالية لماكرون، جعل البرلمان أشبه بحقل ألغام سياسي، تُفشل فيه الحسابات الضيقة كل محاولة لبناء توافق وطني. لقد كان الهدف من الانتخابات المبكرة التي دعا إليها ماكرون هو كسر الجمود وتعزيز موقعه، لكن النتائج جاءت معاكسة تماما. فقد تشتّتت الأصوات بين أحزاب متنافرة أيديولوجيا، أبرزها حزب “التجمع الوطني” بقيادة جوردان بارديلا، الذي وجد في ضعف الحكومة فرصة لتوسيع نفوذه، وحركات اليسار التي توحّدت فقط في معارضة الرئيس لا في مشروع بديل. وفي هذا المشهد المبعثر، فقد الإليزيه القدرة على فرض أجندته الإصلاحية، وتحول البرلمان إلى ساحة صراع يومي حول كل بند تشريعي، من قانون الميزانية إلى سياسات الهجرة والدفاع. وهو ما جعل أيّ رئيس وزراء جديد، مثل لوكورنو، يدخل إلى مكتبه وهو يحمل عبء معركة خاسرة قبل أن تبدأ. تعمّق هذا الانقسام بفعل تآكل الثقة بين المكونات السياسية، حيث باتت التحالفات تُبنى على حساب القضايا الوطنية الكبرى. لم يعد هناك اتفاق حول الخطوط العريضة للاقتصاد، ولا حول دور فرنسا في أوروبا والعالم، بل حتى في الملفات الاجتماعية الحساسة كالتقاعد والضرائب. وهكذا تحوّل البرلمان من فضاء للتشريع والتفاوض إلى حلبة لتصفية الحسابات السياسية، يُستخدم فيها سلاح حجب الثقة كسيف دائم مسلط على رقاب الحكومات. ويكفي أن نتذكر سقوط حكومتين متتاليتين بسبب معارضة مشروع ميزانية التقشف، لندرك عمق المأزق التشريعي الذي تعيشه فرنسا، وعجز الطبقة السياسية عن تجاوز انقساماتها لصالح استقرار مؤسساتي. وفي ظل غياب الأغلبية، أصبح ماكرون يحكم عبر “التكتيك لا الاستراتيجية”، مستعينا بالمادة 49.3 من الدستور لتمرير القوانين دون تصويت، في خطوة وإن كانت قانونية، إلا أنها فاقمت الشعور بضعف الديمقراطية التمثيلية وأعطت المعارضة مبررات جديدة للتصعيد. وبهذا، تحوّل عجز البرلمان إلى عبء على الدولة كلها، لا على الحكومة وحدها، إذ لم يعد أصبح الانقسام تهديدا مباشرا لفعالية النظام السياسي الفرنسي برمته، الذي يبدو اليوم في أمسّ الحاجة إلى إصلاح دستوريّ عميق يعيد تعريف العلاقة بين الرئاسة والتشريع.
الاقتصاد في قلب العاصفة: ميزانية التقشف تُسقط الحكومات
وفي قلب الأزمة السياسية التي تعيشها فرنسا، يقبع الاقتصاد كأحد أكبر مصادر التوتر بين الحكومة والبرلمان، بعدما تحوّلت ميزانية التقشف إلى “كلمة محرّمة” تشعل الخلافات وتُسقط الحكومات المتعاقبة. فمنذ إسقاط حكومة ميشال بارنييه، مرورا بحكومة فرانسوا بايرو، وصولا إلى استقالة لوكورنو، ظلّ مشروع الموازنة العامة محور كل أزمة سياسية، ليس فقط بسبب بنودها المالية، بل لأنها أصبحت رمزا لصراع أعمق بين من يريد خفض العجز المالي بأي ثمن، ومن يرى أن التقشف يُهدّد السلم الاجتماعي ويقوّض العدالة الاقتصادية. وهكذا وجدت فرنسا نفسها عالقة بين مطرقة الأسواق المالية وسندان الشارع الغاضب، في معادلة صعبة لم تستطع السلطة التنفيذية حتى الآن فكّ شيفرتها. لقد حاولت الحكومات المتعاقبة إقناع البرلمان والمواطنين، بأن التقشف ضرورةٌ لا خيار، في ظل ارتفاع الدَّين العام وتراجع التصنيف الائتماني لفرنسا. وكانت الخطة التي اقترحها بايرو تقضي بتقليص العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2026، أي بخفض يفوق 0.8 نقطة خلال عامين فقط، وهو ما أثار غضب الأحزاب المعارضة التي اعتبرت أن هذه الإجراءات “غير واقعية” و”معادية للطبقات الوسطى”. وبالرغم من دفاع الحكومة عن سياستها باعتبارها “مسارا للإنقاذ المالي”، فإنّ تمريرها عبر البرلمان كان شبه مستحيل في ظل توازن القوى الحالي، ما جعل اللجوء إلى المادة 49.3 مجددا خيارا اضطراريا يُعمّق الأزمة بدل حلّها.
لم تقتصر تداعيات هذه السياسة على الخلافات البرلمانية، بل امتدت إلى الشارع الفرنسي الذي لم ينس بعد احتجاجات “السترات الصفراء” التي فجّرها تراجع القدرة الشرائية وارتفاع الضرائب. فكل إعلان عن إجراءات تقشفية جديدة يُقابَل بموجة غضب اجتماعي عارمة، خصوصا مع استمرار معدلات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة، ما جعل المواطنين يشعرون بأنهم يدفعون ثمن أخطاء الحكومات. ومع غياب رؤية اقتصادية واضحة تُوازن بين الإصلاح المالي وحماية الفئات الضعيفة، باتت الثقة بين الدولة والمجتمع في أدنى مستوياتها منذ سنوات، ما يفسّر تصاعد خطاب الشعبوية في الساحة السياسية. وتتجاوز الأزمة الاقتصادية في فرنسا مجرد أرقام الموازنة، لتلامس جوهر المشروع السياسي للرئيس ماكرون نفسه، الذي بنى خطابه على “إصلاح الدولة” وتحسين الأداء المالي. لكن المفارقة أن هذا المشروع يواجه مقاومة من الداخل والخارج في آن واحد: من داخل البرلمان المنقسم الذي يرى في هذه السياسات تهديدا للتماسك الاجتماعي، ومن الخارج حيث الأسواق والمستثمرون الذين يطالبون بالمزيد من الانضباط المالي. وفي ظل هذا التناقض، تبدو أي حكومة جديدة في موقع العاجز بين ضغط دوليٍّ يطالب بخفض العجز، وضغط شعبي يرفض أن يكون وقودا للتقشف.
ماكرون بين مطرقة المعارضة وسندان الشرعية
الرئيس إيمانويل ماكرون يقف اليوم في قلب عاصفة سياسية غير مسبوقة، بين معارضة شرسة تُحاصره في البرلمان، وشارع غاضب يترصّد كل قرار اقتصاديٍّ أو اجتماعي، وجهاز تنفيذي يفقد تماسكه مع كل تعديل وزاريّ جديد. لقد راهن ماكرون منذ بداية ولايته الثانية على إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي بما يتيح له الاستمرار في تنفيذ مشروعه الإصلاحي، لكنه وجد نفسه أمام واقع مختلف: شرعية انتخابية تتآكل، وتحالفات هشة، ومعارضة تزداد قوة وشعبية مع كل أزمة. وفي هذا السياق، أصبحت استقالة لوكورنو تعبيرا عن مأزق أعمق يطال رأس الدولة، الذي يواجه صعوبة متزايدة في إيجاد من يشاركه مسؤولية الحكم وسط برلمان منقسم ومجتمع متململ. لقد فقد ماكرون منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة أداة الحكم الأكثر فاعلية: الأغلبية المستقرة. فبعد أن كان يتحكم في مفاتيح القرار داخل الجمعية الوطنية، بات مضطرا لخوض مفاوضات يومية مع كتل برلمانية متخاصمة، لا يجمعها سوى معارضة سياساته. على الصعيد الشعبي، لم يعد ماكرون يملك ذات الهالة التي أحاطت به عام 2017، حين صعد كوجه جديد يُمثّل “فرنسا الحديثة”. فالتوترات الاجتماعية، وملف التقاعد، وارتفاع الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية، كلها عوامل ساهمت في تراجع شعبيته، حتى بات كثيرون يرون فيه “رئيس النخبة” لا “رئيس الشعب”. ومع كل تعديل حكومي أو أزمة سياسية، تتزايد القناعة بأنّ الأزمة ليست في الوزراء أو البرامج، بل في فلسفة الحكم نفسها، القائمة على إدارة الأزمات لا على معالجتها. ومن هنا، تتنامى الأصوات الداعية إلى إصلاح دستوريّ يحدّ من تركّز السلطة في يد الرئيس، ويُعيد التوازن إلى مؤسسات الجمهورية الخامسة التي بدأت تُظهر علامات الشيخوخة. ومع هذا الانسداد السياسي، يجد ماكرون نفسه أمام خيارات محدودة، جميعها مُكلف: إما المضي في نهج “الترقيع السياسي” عبر تعديلات حكومية متكررة لا تُقنع أحدا، أو المجازفة بحلٍّ دستوريٍّ جديد قد يُعيد البلاد إلى صناديق الاقتراع في ظرف اجتماعيٍّ ملتهب. وبين مطرقة المعارضة التي تترصّد كل خطوة، وسندان الشرعية التي تتآكل مع الوقت، يبدو الرئيس الفرنسي محاصرا داخل دائرة مغلقة من الأزمات، لا يمكن كسرها إلا بإصلاح عميق يُعيد الثقة للمؤسسات ويمنح السياسة الفرنسية نفسا جديدا. فهل يملك ماكرون الشجاعة لإطلاق هذا التحوّل، أم يترك لِمن بعده مهمة إعادة بناء نظام سياسيّ يترنّح تحت وطأة الانقسامات؟