وقف إطلاق النار في غزة

الأرقام تروي قصة مختلفة

الأرقام تروي قصة مختلفة
  • حصيلة بشرية تتصاعد رغم سريان التهدئة

  • غارات متواصلة تفرغ الاتفاق من مضمونه

 

رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي، تكشف الأرقام الميدانية عن استمرار الخسائر البشرية بوتيرة مقلقة، إذ أسفرت الغارات الجوية التي نُفذت خلال هذه الفترة عن استشهاد ما لا يقل عن 356 فلسطينيا، من بينهم نساء وما لا يقل عن 58 طفلا، إضافة إلى إصابة أكثر من 1000 شخص آخر، في معطيات تعكس فجوة واضحة بين ما ينص عليه الاتفاق وبين واقع التنفيذ على الأرض، وتطرح تساؤلات جدية حول فعالية التهدئة والضمانات الدولية المرافقة لها.

تعكس الحصيلة المسجّلة منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ صورة ميدانية مغايرة لما يفترض أن تحققه التهدئة، إذ تشير المعطيات إلى سقوط 356 شهيدا في قطاع غزة خلال هذه الفترة، في رقم ثقيل يكشف أن العمليات العسكرية لم تتوقف فعليا، بل استمرت بأشكال مختلفة، رغم الإعلان عن وقف شامل لإطلاق النار. وتزداد دلالة هذه الأرقام حدة عند التوقف عند طبيعة الضحايا، حيث تضم القائمة نساء وأطفالا، من بينهم ما لا يقل عن 58 طفلا، وهو ما يعكس استمرار استهداف المدنيين أو تعرضهم المباشر لآثار الغارات الجوية، ويؤكد أن الاتفاق، بصيغته الحالية، لم يوفّر الحد الأدنى من الحماية للفئات الأكثر هشاشة داخل القطاع. ولا تقف آثار هذه الخروقات عند عدد الشهداء فقط، إذ تفيد الأرقام بإصابة أكثر من 1000 فلسطيني بجروح متفاوتة الخطورة، ما يفاقم الضغط على المنظومة الصحية المنهكة أصلا بفعل الحصار وتكرار الاعتداءات، ويحوّل وقف إطلاق النار من فرصة لالتقاط الأنفاس إلى مرحلة جديدة من النزيف الصامت. ومع تواتر هذه الحصيلة، تبرز مسألة الوتيرة الزمنية للخروقات، حيث لم تُسجّل الحالات كحوادث متفرقة أو استثنائية، بل كوقائع متكررة، تعكس نمطا شبه يومي من الضربات الجوية، ما يفرغ مفهوم التهدئة من مضمونه العملي، ويحوّل الاتفاق إلى إطار نظري غير مُلزم ميدانيا. في هذا السياق، تفرض الأرقام نفسها كأداة قراءة دقيقة للواقع، بعيدا عن البيانات السياسية، إذ تُظهر أن استمرار الخسائر البشرية بعد سريان وقف إطلاق النار لم يعد مجرد خلل في التطبيق، بل مؤشرا على غياب آليات فعّالة تضمن احترام الاتفاق وتحويله من إعلان سياسي إلى واقع ملموس على الأرض.

 

تعدّد الجبهات يكشف نمط الخرق

ولا تقتصر الخروقات المسجّلة لاتفاق وقف إطلاق النار على قطاع غزة وحده، بل تكشف المعطيات عن اتساع رقعة الانتهاكات لتشمل جبهات أخرى، في مؤشر يعزّز فرضية أن ما يحدث بات نمطا متكررا في التعامل مع اتفاقات التهدئة المبرمة في المنطقة. فإلى جانب استمرار الغارات الجوية على غزة، تشير المعطيات التي عُرضت في مجلس الأمن إلى خرق متواصل لاتفاقات وقف إطلاق النار الموقعة مع كل من لبنان وسوريا، ما يوسّع دائرة الانتهاك ويضع هذه الاتفاقات أمام اختبار جدي لفعاليتها، خاصة في ظل غياب ردع دولي واضح تجاه تكرار الخروقات. ويعكس هذا التمدد الجغرافي للخروقات من قطاع إلى آخر وحدة في السلوك العسكري المعتمد، حيث تتشابه أنماط الانتهاك من حيث التوقيت والأسلوب، ما يحوّل وقف إطلاق النار من التزام قانوني إلى ترتيبات هشة قابلة للتجاوز متى توفرت الظروف الميدانية أو السياسية. كما تكشف هذه الصورة المتعددة الجبهات عن خلل بنيوي في منظومة الضمانات الدولية، إذ إن استمرار الخروقات في أكثر من ساحة، دون مساءلة أو إجراءات ملموسة، يبعث برسالة مفادها أن الاتفاقات المبرمة لا تحظى بالحماية الكافية، وأن الالتزام بها يبقى مرهونا بإرادة طرف واحد. وأمام هذا الواقع، تصبح الأرقام القادمة من غزة ولبنان وسوريا جزءا من مشهد واحد، يطرح تساؤلات متزايدة حول قدرة اتفاقات وقف إطلاق النار، بصيغتها الحالية، على احتواء التصعيد ومنع انتقاله بين الجبهات، في ظل غياب آليات تنفيذ صارمة تضمن احترامها على أرض الواقع.

 

الضامنون أمام اختبار الأرقام

وأمام تراكم هذه الحصيلة الثقيلة من الخروقات والضحايا، تنتقل الأنظار تلقائيا إلى الأطراف الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، التي يفترض أن تشكّل حلقة الوصل بين النصوص الموقّعة والالتزام الفعلي بها على أرض الواقع، خاصة عندما تتحول الأرقام إلى مؤشرات يومية على استمرار العنف بدل تراجعه. فالأرقام المسجّلة منذ سريان التهدئة لا تعكس فقط حجم الخسائر البشرية، بل تكشف أيضا محدودية قدرة الضامنين على فرض احترام الاتفاق أو التدخل لوقف الانتهاكات المتكررة، وهو ما يجعل دورهم محل تساؤل كلما ارتفعت حصيلة الضحايا واتسعت دائرة الخرق. وفي هذا السياق، تكتسب الدعوة الجزائرية إلى تحمّل الضامنين مسؤولياتهم دلالة خاصة، إذ تأتي استنادا إلى معطيات رقمية موثقة، لا إلى مواقف سياسية ظرفية، وتضع مسألة التنفيذ في صلب النقاش بدل الاكتفاء بالتأكيد المتكرر على أهمية التهدئة. كما أن غياب إجراءات عملية تواكب هذه الدعوات يساهم في تحويل الأرقام إلى مجرد إحصاءات تُضاف إلى سجل طويل من الخسائر، دون أن تترجم إلى آليات ردع أو حماية حقيقية للمدنيين، ما يضعف الثقة في جدوى الاتفاقات المبرمة وقدرتها على تغيير الواقع الميداني. وبين تصاعد الأرقام واستمرار الخروقات، يجد الضامنون أنفسهم أمام اختبار حقيقي، ليس فقط في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار كإطار سياسي، بل في إثبات قدرتهم على تحويله إلى التزام فعلي يحمي الأرواح ويحد من النزيف المستمر في مختلف الجبهات.

 

الأرقام كمرآة لفعالية التهدئة

تُظهر الحصيلة الرقمية المسجّلة منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار أن التهدئة، رغم حضورها في البيانات الرسمية، لم تنعكس بالقدر نفسه على أرض الواقع، إذ تحوّلت الأرقام إلى المؤشر الأوضح على مستوى الالتزام الفعلي ببنود الاتفاق، بعيدا عن الخطاب السياسي المعلن. فحين يُقاس نجاح أي اتفاق بقدرته على تقليص الخسائر البشرية، فإن استمرار سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى بعد دخوله حيّز التنفيذ يضع فعالية التهدئة موضع تساؤل، ويكشف فجوة واضحة بين ما يُفترض أن يحققه الاتفاق وما أفرزه الواقع الميداني. كما تعكس هذه الأرقام محدودية تأثير الاتفاق على حماية المدنيين، الذين ظلوا في صدارة المتضررين من الخروقات المتكررة، ما يحوّل التهدئة من أداة لخفض التصعيد إلى إطار شكلي لا يمنع استمرار النزيف، ولا يوفّر الحد الأدنى من الأمان للفئات الأكثر عرضة للخطر. وفي ظل غياب مؤشرات رقمية إيجابية تدل على تراجع العنف، تصبح الأرقام أداة تقييم حاسمة، إذ لا يمكن الحديث عن تهدئة ناجحة دون انخفاض ملموس في عدد الضحايا والإصابات، وهو ما لم يتحقق وفق المعطيات المعلنة منذ سريان الاتفاق. وعليه، تفرض القراءة الرقمية للواقع مقاربة أكثر واقعية لمسألة وقف إطلاق النار، تقوم على ربط فعالية الاتفاق بنتائجه الميدانية، لا بوجوده الشكلي، وتؤكد أن الأرقام تظل الحكم الأصدق على مدى قدرة التهدئة على إيقاف النار فعليا وحماية المدنيين.

 

حصيلة مفتوحة على مزيد من التساؤلات

ومع استمرار تسجيل الخسائر البشرية رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار، تتحول الأرقام المعلنة إلى حصيلة مفتوحة، لا يمكن قراءتها كنهاية مرحلة، بل كمؤشر على مسار ما يزال قابلا للتصعيد، في ظل غياب معطيات تؤكد تراجع وتيرة العنف أو استقرار الوضع الميداني. فطبيعة هذه الأرقام، التي تتراكم مع مرور الوقت، تجعلها قابلة للارتفاع في أي لحظة، ما دامت الخروقات مستمرة دون إجراءات رادعة، وهو ما يضع الاتفاق أمام اختبار الزمن، ويجعل نجاحه أو فشله مرتبطا بقدرته على وقف هذا التصاعد العددي للخسائر. وتكتسب هذه الحصيلة بعدا إضافيا حين تُقرأ في سياقها الإنساني، حيث تعكس الأرقام واقعا يوميا يعيشه المدنيون، وتكشف أن استمرار النزيف يحوّل التهدئة إلى مرحلة انتقالية غير مكتملة الأركان. كما أن غياب مؤشرات واضحة على تغيير ملموس في سلوك الأطراف المنخرطة في الاتفاق يجعل من الصعب التعامل مع هذه الحصيلة باعتبارها استثناء، بل يدفع إلى النظر إليها كنتاج مباشر لخلل قائم في آليات التنفيذ والمتابعة. وأمام هذه المعطيات، تظل الأرقام مفتوحة على مزيد من التساؤلات حول مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار، وقدرته على الصمود، ومدى إمكانية تحويله من إطار نظري هش إلى مسار فعلي يحد من الخسائر ويضع حدا للنزيف المستمر. وعليه، تختزل الأرقام المسجّلة منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ صورة الواقع الميداني بعيدا عن الخطاب السياسي، إذ تكشف أن النار لم تتوقف فعليا، وأن الخسائر البشرية ما تزال تُسجَّل بوتيرة تضع مصداقية التهدئة موضع مساءلة، في ظل غياب مؤشرات رقمية واضحة على تراجع العنف أو حماية المدنيين. ومع تراكم هذه الحصيلة، تتجاوز الأرقام دورها الإحصائي لتتحول إلى معيار موضوعي لتقييم الاتفاق، حيث لم يعد كافيا الحديث عن وقف لإطلاق النار ما دامت المعطيات الميدانية تشير إلى استمرار سقوط الضحايا، واتساع دائرة الخروقات، وتعدد الجبهات التي يشملها هذا النمط من الانتهاك. وفي هذا السياق، تبرز دعوة الجزائر إلى تحمّل الضامنين لمسؤولياتهم كجزء من قراءة واقعية تستند إلى الوقائع لا إلى النوايا، وتؤكد أن فعالية أي اتفاق تبقى رهينة بوجود آليات تنفيذ ومتابعة قادرة على ترجمة الالتزامات إلى نتائج ملموسة على الأرض. كما تعيد هذه الأرقام طرح سؤال جوهري حول مستقبل اتفاقات التهدئة في المنطقة، ومدى قدرتها، بصيغتها الحالية، على كبح التصعيد وحماية المدنيين، في ظل نظام دولي يبدو عاجزا عن فرض احترام التزاماته حين تتعارض مع ميزان القوة. وأمام هذا المشهد، تبقى الأرقام المفتوحة هي العنوان الأبرز للمرحلة، إذ لا تُغلق الباب أمام التطورات المقبلة، بقدر ما تعكس واقعا متحركا يفرض قراءة مستمرة، ويجعل من احترام وقف إطلاق النار اختبارا حقيقيا لإرادة التنفيذ، لا مجرد إعلان سياسي قابل للتجاوز.

م. ع