يحيي العالم، اليوم، وفي 15 ماي من كل سنة، اليوم العالمي للأسرة، وهو مناسبة تُسلط الضوء على دور الأسرة كركيزة أساسية في بناء المجتمعات وتعزيز الحضارة، وعادة ما تأتي هذه الفعالية كتذكير للعالم بأهمية دعم دور الأسرة في توطيد العلاقات الاجتماعية والثقافية، وتعزيز التفاهم والتعاون بين أفراد المجتمع، لكنه هذه السنة يجيء بطعم مرير وواقع أليم تعيشه الأسرة الفلسطينية تحت وطأة الحرب والتشتت وفقدان أفرادها، إن لم تُفقد بشكل كامل.
الهدف الأول لليهود
منذ احتلال فلسطين، بدأ مسلسل لا يتوقف من المعاناة يحاصر الأسرة الفلسطينية باعتبارها ركيزة المجتمع الفلسطيني، جراء سياسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي استهدفت الشعب الفلسطيني بكل مقدراته ومكوناته وتفاصيله اليومية، من خلال جملة من الممارسات التعسفية من قتل وجرح واعتقال وتشريد وإبعاد وإقامة جبرية، ومصادرة أراضٍ واستيطان وجدران وحواجز وبوابات واقتحامات وحظر تجول وحصار والقائمة تطول.
الحرب تُعيد الأسرة الفلسطينية إلى الحياة البدائية
أعادت الحرب الصهيونية البربرية على قطاع غزة المستمرة منذ شهر أكتوبر من السنة الماضية حتى الآن، العائلات الفلسطينية للحياة البدائية، فأصبح طهي طعامهم على النار.. وغسيل الملابس لهم حكاية معاناة تفاصيلها صعبة جعلت الفلسطينيات هن سيدات الأرض ينحتن بالصخر.. متحملات محنة النزوح بقساوتها.. يحاولن تجاوز الأزمات التي فرضتها الحرب عليهم.
“ننام معاً كي نموت معاً”
في روبورتاج بثته إحدى الفضائيات، تحدث معد البرنامج مع زميلة سابقة له قالت له إنها تخلت عن مهنتها في هذه الظروف كي تبقى مع أطفالها.
وأضافت: “بيتي في حي الرمال تضرر بشكل كبير، منذ أيام نزحت عنه إلى بيت أخي، حيث تبيت ثلاث عائلات معا. عندما يشتد القصف، يبدأ الأطفال بالتشهد، عند اشتداد القصف أقوم بجمع الأطفال وأحاول أن ألهيهم باللعب معاً مع أني بحاجة لمن يهدئ روعي خلال القصف ويساعدني نفسياً، نحاول التغلب على الوضع بالقول للأطفال: إنها أزمة وستمر وأن الله معنا”.
وتضيف هذه السيدة إنها ترى أن سلامة عائلتها تأتي أولوية، وتقول: “أؤكد لك أن أهالي القطاع مجمعون على فكرة واحدة وهي أن يناموا مع أبنائهم جميعاً في نفس الغرفة حتى إذا نزلت قذيفة على البيت، يموت كل أفراد العائلة معاً كي لا يبقى أحد حياً ويتحسر على الأموات”.
أمٌ أخرى، تعيش في خان يونس جنوب قطاع غزة لديها طفلين، عندما يشتد القصف تبدأ ابنتها ريتال – 4 سنوات – بالشكوى من صوت القصف المزعج والذي يسبب لها ألماً في الرأس، فتعدها الأم بـ “هدية جميلة فور هدوء الأوضاع شريطة أن تهدأ”، كما تحاول الأم إصدار أصوات مضحكة كي تجعل طفلها ذا العامين يضحك هو الآخر.
أما السيدة ليلى محمد، ثلاثينية وأم لخمسة أطفال، فتقول إنها كأم تشعر بالخوف الشديد على أطفالها وتحاول حمايتهم داخل البيت، حيث تعتبر الخروج والتشريد “صعباً جداً وفي هذه الحرب لا يوجد مكان آمن أبداً، ومن خلال تجربة التشريد في الحروب الماضية لا تزال ابنتي سلمى تتذكر هذه اللحظات وكل يوم تقول لي لا نريد أن نخرج من البيت، لا أريد أن أموت خارج بيتنا، فهي تشعر بأن الصواريخ تلاحق أي شخص يمشي في الشارع لأننا عشنا هذه اللحظات من قبل وهي تخاف من ذلك، وفي الليل تصيبها حالات الذعر الشديد من صوت الطائرات”.
لا يبدو الوضع مختلفاً كثيراً عند منال سالم، التي تقول إنها تجلس مع أبنائها ويتسامرون كي لا يركزوا في أصوات القصف. وتضيف: “ابني الأكبر فارس بعمر الثماني سنوات يذهب إلى الحمام كثيراً وفي بعض الأحيان يتبول على نفسه، وذلك من الخوف الشديد. إنه يكره صوت الطائرات. أنتظر أن تهدأ الأمور قليلاً لكي أذهب إلى أخصائي نفسي لمعالجة أطفالي والخروج من هذه الحالة”.
“أغاني الأطفال كانت تعلو على صوت الصواريخ“
سيدة أخرى تقول عن هذه الحرب بأنها “لا تشبه ما شهده القطاع من حروب سابقة، فخلال الحرب السابقة على غزة في ماي عام 2021. وقتذاك أفادتني ببعض المحاولات الشخصية لمساعدة أطفالي نفسياً للتعامل مع آثار الحرب، مثل قراءة القصص أثناء القصف، وإذا كان القصف عالياً ألجأ إلى تشغيل مكبرات الصوت ببعض أغاني الأطفال كي يعلو على صوت الصواريخ في الخارج.
لكن الآن، وخلال هذه الحرب مختلفة، سيئة جدا، لا أدري ماذا أفعل، فزوجي خارج البلاد وأنا معي 3 أطفال، وما يزيد الوضع سوءا هو انقطاع الكهرباء، فلا أدري ما العمل”.
“أشعر بأن جسدي كله يؤلمني بسبب إخفاء حزني وبكائي على أطفالي“
تقول أم ثلاثينية من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، إن الأمهات يعشن حالة صعبة في الحرب، فعليهن التحلي بالقوة أمام أطفالهن. وتضيف: “أشعر بأن جسدي يؤلمني كله بسبب اخفاء حزني وبكائي على أطفالي، أشعر بأن الطاقة السلبية تسبب التشنج لعضلات جسمي وتتلف أعصابي، أحاول أن أكون قوية أمام أطفالي”.
وتحاول كل أم أن تجهز حقيبة لحفظ الأوراق الضرورية كي تتمكن من الإخلاء عند القصف بسرعة هي والأطفال، وهذا ما حدث مع سعاد جبر التي خرجت من منزلها بعد أن تم قصف منطقة السكة ومن ثم عادت مرة أخرى لمنزلها الذي تضرر قليلاً حيث “لا يوجد مكان آمن”.
“أزمات نفسية متواصلة“
نشرت منظمة “أنقذوا الأطفال” تقريراً العام الماضي، تعرض فيه مقارنة بين الحالة النفسية للأطفال في قطاع غزة في السنوات الأخيرة، وأظهرت أن حوالي 88 بالمئة من الأطفال يعانون من اضطرابات عاطفية عام 2022 مقارنة بما نسبته 55 بالمئة في الأعوام السابقة، إلى جانب عدد آخر من الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الأطفال، بحسب التقرير.
هل الصحة النفسية “رفاهية” في أوقات الحرب؟
قد يتبادر هذا السؤال لمن يعيش ظروف الحرب أو حتى للمتابع عن بعد، ففي ظل انعدام وجود مكان آمن في غزة حيث لا ملاجئ وانقطاع لشبكة الطرق وكذلك الكهرباء والماء، يبدو الاعتناء بالصحة النفسية ضرباً من الترف غير المهم. لكن بحسب الأخصائيين النفسيين، فإن ما يُسمى بـ “الإسعافات النفسية الأولية” تفيد على المدى الطويل، حتى لو باتباع خطوات بسيطة.
إحدى المؤسسات غير الربحية مثلاً تقوم بعرض نصائح للعائلات وأطفالها عبر موقع فايسبوك، من بين النصائح التي يقدمها أخصائيو هذه المؤسسة هي “مشاركة الأطفال في التعبير عن مشاعرهم يساعد في التغلب على الفقدان”.
ويقول مدير برنامج غزة للصحة النفسية، الدكتور ياسر أبو جامع إن “القدرات المعرفية لدى الأطفال ليست كالكبار، ولكنهم يستشعرون الخطر بشكل كبير ولافت، بمجرد النظر في عيون ذويهم، وعندما يلحظون التوتر لدى الكبار، وبالطبع عند سماع أصوات القصف والانفجارات”.
وينصح الدكتور أبو جامع الأهالي في غزة بمحاولة التقليل من بعض العادات للتخفيف من نقل التوتر والقلق من الكبار إلى الأطفال، قائلا: “على الأهل التقليل من النظر عبر النوافذ، والتقليل من متابعة الأخبار طوال الوقت وإشراك الأطفال في البحث عن مكان آمن في البيت، أو التخطيط للانتقال إلى بيت أحد الأقارب، فإشراك الأطفال في هذا القرار يشعرهم بالطمأنينة خاصة عند سماعهم صوت الانفجارات”.
ويضيف الدكتور أبو جامع أن على الأهل محاولة “اتباع وسائل تساهم في تخلص أطفالهم من القلق، مثل تشجيعهم على الحديث عن مخاوفهم، لكن دون اللجوء إلى تزويدهم بأخبار كاذبة أو وعود وهمية. من الأنسب التحدث عن الخوف والانخراط معهم في أنشطة يومية اعتيادية، ومحاولة الاستمرار في الروتين اليومي قدر الإمكان”.
لمياء. ب