فبعد أن تطرقنا لقضية السلام من المنظور الإسلامي، وإسقاطاته في واقع الحياة بين الأفراد والأمم، ووقفنا على أهميته، وقواعد إرسائه، يحسنُ بنا أن ننتقل إلى مستوى أرقى، ونعلوَ إلى درجة أسنى، إنها درجات الإحسان التي حثَّنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أن نعرج إليها في قوله: “والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه”، إنها مقامُ السَّلام النفسي، والاطمئنانِ الروحي. أمة الإحسان: إن الارتقاء إلى مرتبة السلام النفسي، والعروجَ إلى مقام الاطمئنان القلبي، لا يوصَلُ إليه إلا على سفينة الإيمان الصادق، مشفوعا بالعمل الصالح، مصداقا لقول الحق تعالى: “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون” الأنعام 82. إن الإيمان أعظم نعمة، وأكرمُ عطية، يُكرمُ بها الله تعالى عبده، فهو النورُ الذي يشعُّ ضياؤه في القلب، فيورِثُه وجدا وقربا من الله، وأنسا به ورضاء عنه، ويقذف في الفؤاد لذة وسعادة، قال عنها بعض العارفين: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه، لجالدونا عليه بالسيوف”، ويقول ثان: “إنه لتمرُّ بي أوقات يرقص فيها طربا”، ويقول ثالث: “إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إنْ كان أهل الجنة في مثل هذا؛ إنهم لفي عيش طيب”. إنها بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب، ترفعُ صاحبها إلى مصاف الملائكة الأطهار، وتجعله يفنى عن الأغيار؛ فلا يخفق قلبه إلا بحب الله ورسوله عليه السلام، والشوقِ إلى لقاء ربه، والأنسِ به. أيها المؤمنون: إن سبيلَ تحصيلِ الإيمانِ الالتزامُ بشرع الله تعالى ظاهرا وباطنا، والإكثارُ من العبادات والقربات من ذكر وتلاوة قرآن وصلاة وحبٍّ صادق لله ولرسوله وللمؤمنين، وغيرِ ذلك، فلا يخفى أثرُ العبادة على قلب ابن آدم، قال تعالى في شأن الذكر: “الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب” الرعد: 82، وقال عليه السلام في شأن تلاوة القرآن كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة؛ وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده”، وقال صلى الله عليه وسلم لبلال في شأن الصلاة كما عند أبي داود من حديث محمدِ بن الحنفية: “أرحنا بها”، وقال أيضا كما في المسند عن سيدنا أنس رضي الله عنه: “وجُعلت قرة عيني في الصلاة”، وقال عليه السلام في شأن المحبة الصادقة كما عند الشيخين من طريق أنس رضي الله عنه: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه”. عباد الله إني داع فأمنوا: اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك الإصلاح في الولد والعافية في الجسد والأمن في البلد. اللهم انصر إخواننا في أرض الرباط والاستشهاد غزة العزة، وفي كل فلسطين.
الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر