عندما تحولت الكلمة إلى سلاح

الإذاعة السرية الجزائرية.. ذاكرة نضال وكفاح إعلامي

الإذاعة السرية الجزائرية.. ذاكرة نضال وكفاح إعلامي
  • أداة إعلامية ومدرسة نضالية

في كل عام تعود ذكرى تأسيس الإذاعة السرية الجزائرية لتوقظ في الذاكرة الوطنية واحدة من أنبل محطات الكفاح الإعلامي، خلال ثورة التحرير المجيدة، تلك المحطة لم تكن مجرد وسيلة اتصال، بل سلاحا حقيقيا في معركة الوعي والتحرير، وصوتا حرا اخترق جدران القمع والاستعمار.

ولدت الإذاعة السرية الجزائرية في ظروف بالغة الصعوبة، حيث كان الاستعمار الفرنسي يفرض حصارا إعلاميا خانقا محاولا طمس الحقيقة وتشويه نضال الشعب الجزائري، وفي خضم هذا الواقع أدرك قادة الثورة أن المعركة لا تخاض بالبندقية وحدها، بل بالكلمة الصادقة التي ترفع المعنويات وتوحد الصفوف وتنقل صوت الثورة إلى الداخل والخارج.

 

من مخابئ سرية وبوسائل تقنية بدائية

انطلق بث الإذاعة السرية الجزائرية من مخابئ سرية وبوسائل تقنية بدائية ليحمل رسائل الثورة وبيانات جيش التحرير الوطني وأخبار المعارك والانتصارات مخاطبا الشعب الجزائري بلغته ومؤكدا أن الثورة حاضرة ومستمرة، فكان صوت الإذاعة يبعث الأمل في النفوس ويزرع الثقة بقرب النصر.

 

الإرادة التي صنعت المعجزة

رغم قلة الإمكانيات والتجربة، استطاعت الإذاعة السرية الجزائرية التي كانت متنقلة على ظهر شاحنة في البداية هروبا من عيون المستعمر الفرنسي أن ترى النور في 16 ديسمبر من العام 1956 في مدينة “الناظور”، وكانت تخاطب المستمعين لتقول “هنا إذاعة الجزائر حرة مكافحة… صوت جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني يخاطبكم من قلب الجزائر”.

وبعد حصول قيادة الثورة على أجهزة اتصال أمريكية الصنع، تم تعديلها لتستعمل في مجال البث الإذاعي كجهاز PC610، وتمكنت الإذاعة السرية من البث يوميا من خلال شاحنة متنقلة من نوع GMC ولمدة ساعتين ابتداء من الثامنة مساء، وكانت تستهل بثها بالنشيد الوطني متبوعا بأخبار عن كل ما يجري في الجزائر مع التركيز على أخبار المعارك والخسائر التي كان يتكبدها العدو على يد الثوار.

وفي البداية لم تكن تملك الإذاعة الأناشيد الوطنية الثورية لأنها لم تسجل بعد، لذا استعان طاقمها ببعض الأغاني والأناشيد العربية مثل الأغنية المصرية للفنانة اللبنانية نجاح سلام “يا طير يا طاير خذ البشاير روح للجزائر”.

 

صوت الجزائر المكافحة

وقد كان أول مدير لها المرحوم محمد السوفي المتوفى في ديسمبر 2006 ولم يلبث صوت الجزائر أن انطلق يدوي من الإذاعات العربية الشقيقة بصوت المرحوم عيسى مسعودي -الذي قال عنه الرئيس الراحل هواري بومدين-“نصف انتصارات الثورة بفضل جيش التحرير ونصفها الآخر بفضل صوت عيسى مسعودي”.

بدءا بالرباط فطنجة ثم تونس، لتفتح أغلب الإذاعات العربية برنامجا خاصا يدعم الثورة الجزائرية، مثلما فعل صوت العرب من القاهرة، والإذاعة الليبية من طرابلس وبنغازي، والكويت وبغداد وجدة ودمشق وغيرها.

 

اهتمام الحكومة المؤقتة بالإذاعة السرية

بعد تأسيس الحكومة المؤقتة الجزائرية في 19 سبتمبر من عام 1958 ازداد اهتمام قيادة الثورة التحريرية بدعم العمل الإعلامي بصفة عامة والعمل الإذاعي بصفة خاصة، حيث استفادت الإذاعة السرية من تجديد أجهزتها وتقوية البث وزيادة الحجم الساعي لها، كما دعم طاقم العاملين فيها بعدد من الصحفيين المناضلين كالتحاق عيسى مسعودي الملقب بالصوت الرمز للثورة الجزائرية.

 

المستعمر الفرنسي فشل في التشويش على أمواج بث الإذاعة السرية

حاول الفرنسيون قطع الطريق أمام نجاح هذه الإذاعة من خلال التشويش على برامجها، لكن بفضل تقنييها الشباب الذين ابتكروا عدة أساليب، استطاعت مواجهة مخططاتهم كتقريب موجات بث الإذاعة السرية من موجات فرنسا أو أي دولة لها علاقة طيبة معها، وبالتالي كانت كل عملية تشويش تقوم بها فرنسا عقبها مباشرة تكون هي أول المتضررين وبعدها الدول الصديقة لها.

وبحسب رئيس قسم اللغة الفرنسية بالإذاعة السرية آنذاك مصطفى تومي، فقد استعمل المستعمر الفرنسي أساليب البحث التقني للعثور على شاحنة البث، لكن ولحسن حظهم باءت كل محاولات المستعمر بالفشل.

كما اختارت الإذاعة أمواج البث القصيرة لا الطويلة لأن هذه الأخيرة تتطلب طاقة كهربائية وأجهزة أكبر، وهو ما لم تكن تمتلكه بسبب ظروف الحرب.

 

عيسى مسعودي… صوت الإذاعة السرية

عيسى مسعودي، أو كما يلقبه رفقاء النضال بالصوت الرمز للثورة التحريرية، بعد انضمامه للإذاعة السرية أعطى دفعة قوية للعاملين بها، حيث كان بصوته الثوري الجهوري وفصاحة لسانه وحماسه المنقطع النظير يشحذ همم الثوار الذين كانوا في ساحات المعارك يضحون بالغالي والنفيس لتحرير الجزائر من براثن المستعمر الفرنسي الغاشم.

الرئيس الراحل هواري بومدين كان يشيد بالدور البارز الذي لعبه عيسى مسعودي من موقعه في الإذاعة السرية، حيث كان صوت الثورة المدوي الذي فاقت قوته مدافع المعارك الضارية في الجزائر، حيث قال بومدين إن “نصف انتصارات الثورة بفضل جيش التحرير ونصفها الآخر بفضل صوت عيسى مسعودي”.

استطاعت الإذاعة السرية بفضل العاملين بها والسياسة الحكيمة لقادة الثورة التحريرية أن تكون سلاحا مجديا في يد الثوار تضاهي فعاليته الأسلحة الحربية، ولعل أهم ما ميزها كونها كانت جزائرية مائة بالمائة في برامجها وإطاراتها السياسية والتقنية على حد سواء.

فرغم قلة الإمكانيات والتجربة استطاعت الإذاعة السرية أن تحقق أهدافها في زرع الخوف في قلب المستعمر وبعث الثقة في نفوس الجزائريين وفك العزلة الإعلامية عنهم.

 

تجديد العهد مع الرسالة الإعلامية

ونحن إذ نحيي ذكرى تأسيس الإذاعة السرية الجزائرية، فإننا لا نستحضر الماضي من باب الحنين فقط، بل نستخلص منه الدروس والعبر، وفي مقدمتها أهمية الإعلام المسؤول عن حماية الذاكرة الوطنية والدفاع عن السيادة وترسيخ القيم الوطنية في مواجهة كل أشكال التضليل.

وتمثل هذه الذكرى مناسبة لتجديد العهد مع الرسالة الإعلامية الوطنية واستحضار تضحيات الرواد الذين آمنوا بأن الكلمة الحرة لا تقل عن قوة السلاح وأن الصوت الصادق قادر على صنع التاريخ.

لمياء. ب