أنوارمن جامع الجزائر

الاسلام رسالة حرية وكرامة – الجزء الأول –

الاسلام رسالة حرية وكرامة – الجزء الأول –

لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْإِنْسَانَ بِيَدَيْهِ، وَشَرَّفَهُ بِأَنْ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَرَّمَهُ بِأَنْ أَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُ الْكَوْنَ وَمَنَحَهُ حَقَّ ارْتِفَاقِهِ، مُتَمَتِّعًا بِكَرَامَتِهِ وَسِيَادَتِهِ فِيهِ. قَالَ سُبْحَانَهُ: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” الْإِسْرَاءِ: 70. هَذَا التَّكْرِيمُ الْإِلَهِيُّ وَالتَّفْضِيلُ الربّانيّ، هُوَ الْأَسَاسُ لِحُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ الَّتِي انْبَثَقَتْ مِنْهَا مَسْؤُولِيَّتُهُ عَلَى أَفْعَالِهِ، وَعَلَى إِثْرِهَا حُمِّلَ أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ؛ فَالْحُرِّيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ شِعَارًا، بَلْ مَسْؤُولِيَّةٌ، وَأَمَانَةٌ، وَضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ. فَمَا هِيَ الْحُرِّيَّةُ فِي مِيزَانِ الْإِسْلَامِ؟ إِنَّهَا لَيْسَتْ انْفِلَاتًا مِنْ كُلِّ قَيْدٍ، وَانْطِلَاقًا دُونَ ضَابِطٍ، فَتِلْكَ فَوْضَى وَحَيَوَانِيَّةٌ تَسْتَحْكِمُ فِيهَا الْغَرَائِزُ وَالْأَهْوَاءُ؛ بَلِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ هِيَ: خُرُوجٌ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْبَشَرِ وَأَهْوَائِهِمْ، إِلَى الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالْخُضُوعِ لِشَرِيعَتِهِ. وَمَعْنَى الْخُضُوعِ لِلَّهِ وَلِشَرِيعَتِهِ؛ هُوَ الدَّيْنُونَةُ لِلْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَلِلْعَدْلِ الْمُطْلَقِ، وَلِلْقِيَمِ الْمُطْلَقَةِ، الَّتِي مَصْدَرُهَا الْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وَوَضَعَ مَوَازِينَ الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، الَّتِي عَلَيْهَا صَلَاحُ الْكَوْنِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِنْسَانِ؛ فَحُرِّيَّةٌ هَذَا أَسَاسُهَا، حُرِّيَّةٌ بَنَّاءَةٌ، تَحْفَظُ حُقُوقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَمْنَعُ الْفَسَادَ وَالْعُدْوَانَ، ضِمْنَ إِطَارِ الضَّرُورَاتِ الْخَمْسِ: حِفْظِ الدِّينِ، حِفْظِ النَّفْسِ، حِفْظِ الْعَقْلِ، حِفْظِ الْمَالِ، وَحِفْظِ النَّسْلِ. وَهِيَ إِذَنْ تَحَرُّرٌ مِنْ تَحَيُّزِ الْبَشَرِ وَجَوْرِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ” آلِ عِمْرَانَ: 64. وَهَذَا مَا لَخَّصَهُ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِبَارَتِهِ الْخَالِدَةِ أَمَامَ رُسْتُمَ قَائِدِ الْفُرْسِ فِي قَوْلِهِ: “جِئْنَا لِنُخْرِجَ الْعِبَادَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْعِبَادِ إِلَى عُبُودِيَّةِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَةِ الْآخِرَةِ، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ”. وَضِمْنَ نِطَاقِ هَذَا النِّظَامِ الْإِلَهِيِّ الْحَكِيمِ، يَحْرُمُ الْعُدْوَانُ عَلَى كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ أَوِ امْتِهَانُهُ أَوِ السُّخْرِيَةُ مِنْهُ، أَيًّا مَا كَانَ لَوْنُهُ، أَوْ عِرْقُهُ، أَوْ دِينُهُ، أَوْ مَكَانَتُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” الْحُجُرَاتِ: 11، فَلَا أَفْضَلِيَّةَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الْحُجُرَاتِ: 13، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟” قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: “فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ”.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر