* التعليم سلاح أساسي لبناء الوعي والمقاومة
تحمل التجربة التعليمية في الجزائر خلال فترة الثورة التحريرية التي انطلقت في الفاتح من نوفمبر 1954، تاريخًا مهمًا يعكس مدى الإصرار والتفاني في بناء نظام تعليمي يخدم الأجيال القادمة، وكانت الجزائر تحمل وطأة الاستعمار لعقود طويلة، إلا أن حلم الحرية لم يكن مقتصرًا على الاستقلال السياسي فحسب، بل امتد إلى الاستقلال التعليمي والعلمي الذي شكل أساس الهوية الوطنية.
وخلال فترة الثورة، كان التعليم يعتبر سلاحًا أساسيًا لبناء الوعي والمقاومة، على الرغم من الصعوبات التي واجهها الجزائريون، فإن روح المثابرة والعزيمة أتاحت فرصًا للتعلم للجميع، سواء كان ذلك من خلال المدارس السرية أو الجهود البطولية للمعلمين الذين سعوا جاهدين لنشر العلم والمعرفة رغم الظروف القاسية. ولم يكن العمل المسلح خلال اندلاع الثورة التحريرية في أول نوفمبر 1954 الذي شنه المجاهدون، ثورة ضد الوجود الاستعماري وقواته العسكرية فحسب، بل كان عاملا شاملا ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المزرية التي خلفها، وتعتبر الأمية المتفشية في أوساط الجزائريين إحدى أهم سماتها، ومن ثمة شكل التعليم محورا أساسيا في الثورة التحريرية منذ انطلاقتها، حيث أعطى قادتها أهمية كبيرة لهذا القطاع الحيوي، باعتباره أحد العناصر الأساسية في بناء المجتمع ولما يحمله من بعد مستقبلي للأمة الجزائرية. ويتجلى هذا الاهتمام، من خلال الحرص على تعليم الأطفال والكبار وإنشاء المراكز التعليمية وانتشارها في القرى والمداشر وتحدي ظروف الحرب القاهرة. ولم تُغفل الثورة اللاجئين في هذا المجال، حيث تم تجهيز دور للإيواء بمدارس تعليمية خاصة. وحرصا على الرفع من مستوى جيش التحرير الوطني، أقرت قيادة الثورة بتعليم الجنود ومحو الأمية في صفوفها، ونتيجة لظروف الحرب التي حالت دون مواصلة الطلبة تعليمهم في الجزائر قامت جبهة التحرير بإرسال البعثات الطلابية لإكمال دراستهم في الخارج، وقد تابعت ظروف تمدرسهم وتكفلت بمتطلباتهم، وقد أتت هذه الجهود التعليمية بثمارها، حيث ساهمت في رفع مستوى قادة الثورة وأوجدت جيلا مثقفا لقيادة جزائر ما بعد الاستقلال. وأكد الباحث الأكاديمي، عزة حسين، في هذا الصدد، أنه عند اندلاع ثورة التحرير في الفاتح من نوفمبر 1954، ساهمت معاهد جمعية العلماء المسلمين التي تأسست لأول مرة في سنة 1947 في تقديم الدروس للتلاميذ بطريقة عادية، كما اعتمدت على المؤسسات الموجودة سابقا مثل الكتاتيب والزوايا، التي كانت تحافظ على الشخصية العربية الإسلامية، والمدارس التابعة لجمعية العلماء المسلمين وحزب الشعب وهذا تقريبا إلى غاية 1956، كما حرص قادة الثورة على إرسال البعثات الطلابية إلى الدول العربية لتكوين إطارات ما بعد الاستقلال، كما قررت ثورة التحرير إلزامية التعليم القراءة والكتابة وجعلته إجباريا في أوساط جيش التحرير ومنتظما حسب ما تقتضيه الظروف في تشكيل مدارس مختلفة ومتنقلة بالاستعانة بالطلبة المتحصلين على شهادات علمية والذين التحقوا بثورة التحرير عند اندلاعها، كما ركزت على إلزامية التعليم بالبوادي والقرى والأرياف.
خطة مدارس الثورة للقضاء على الأمية التي تجاوزت 98 بالمائة آنذاك

وشمل التعليم الذي جاءت به الثورة، الرجال والنساء معا من مختلف الأعمار، لأن هدفه كان محو الأمية في أوساط المجتمع، لأن الإحصاءات الفرنسية أثبتت أن نسبة الأمية سنة 1955 بلغت 98 بالمائة بين النساء.
وأمام هذا اعتمدت مدارس الثورة، قرارات ردعية وصارمة حينما أعلنت إلزامية التعليم للذين يمنعون أبناءهم من التعليم، وذلك بفرض غرامات مالية، وقد طبقت في العديد من المرات، لذلك شكلت لجان شعبية لتوظيف المعلمين تمثل دورها في التنسيق مع مسؤولي القرى، والأحياء، وحافظت على هيئة التدريب السابقة، خاصة عندما صدر الأمر بحل جميع الهيئات السياسية، وإيقاف نشاطها، من أجل إعطاء الصبغة الوطنية للتعليم تحت إدارة الثورة، فوحدت المدارس تحت غطاء واحد. وحسب المؤرخين، فإن عملية تعميم التعليم وإلزاميته التي أحدثتها ثورة التحرير ساندها ودعمها القادة من الكبار، خاصة قادة المناطق التي انتشر فيها التعليم العربي بكثرة مثل الولاية الثانية والثالثة، ولأجل ذلك قام زيغود يوسف قائد الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) بتقديم مبلغ مالي كبير قدره خمسة ملايين فرنك لمدرسة التربية والتعليم بقسنطينة سنة 1956، من أجل إتمام بنائها. وبالحديث عن الولاية الثانية التاريخية، تكون قسنطينة ممثلة في معهد ابن باديس والتي قد مدت الثورة بأعداد كبيرة من طلبتها إناثا وذكورا، كان منهم الكتاب والقضاة والمرشدين، وأيضا حاملي السلاح. أما في الولاية الثالثة “القبائل الكبرى” بقيادة العقيد عميروش، فقد كانت على اتصال مباشر باللجنة المسيرة للتعليم في مدينة الجزائر (لجنة التعليم العالي)، والتي أمدت الثورة بالإطارات اللازمة والمعلمين الأكفاء، للقيام بالتعليم، كما أصدر العقيد عميروش أمرا بتجنيد كل المؤهلين للتدريس. وقد اعتمدت اللجان المسيرة للتعليم الثوري، على مناهج ومقررات وإدارة رسمية، حيث كان المعلم مثلا يتقاضى راتبا شهريا يتراوح بين 5 آلاف و15 ألف فرنك قديم)، أما لغة التدريس فهي العربية، ما عدا الذين لا يتقنونها فيحق لهم الكتابة بالفرنسية، وبالرغم من هذا، فإن التحدي وروح الوطنية جعلت من أفراد جيش التحرير يصرون على تعلم اللغة العربية، فأصبح عددهم كبيرا. وبهذه الأوامر والقرارات الثورية، عممت اللغة العربية في أساليب وإدارة الثورة، حيث أثريت مفردات ومصطلحات أصبحت جارية الاستعمال بين المواطنين والتي منها: المسبل، الفدائي، المجاهد مجلس الدور المحافظ السياسي، المعركة الفرقة المجموعة، الفوج، كما كانت لجنة التعليم تشرف على سير الدراسة في مدارس الثورة وتتابع الامتحانات، وكل تلميذ يلاحظ عليه صفة الذكاء يسجل في سجل خاص، ويبعث به مع البعثات الطلابية إلى الخارج خاصة دول المشرق العربي.
هكذا نجحت ثورة العلم بامتياز على الأمية..
واهتمت الثورة كثيرا بالتربية والتعليم، حيث كان قادتها يشجعون طلاب العلم كثيرا، فأنشأوا المدارس في الجبال والمداشر والمشاني والأرياف، وأعلنوا ثورة ثقافية بامتياز على الأمية، وبهذا تكون الثورة قد غطت نسبة معتبرة من التلاميذ التي قدرها الرائد لخضر بورقعة بـ86 بالمائة.
وقد اختلف التعليم الثوري من المدن إلى الأرياف، ففي المدن استمر التعليم الفرنسي الرسمي بمدارسه وثانوياته والجامعة ومؤسسات التكوين المهني مع تغير معروف في السياسة التعليمية حول مدى فتح الباب لقبول أبناء الجزائريين أو عدم فتحه، والحقيقة أن التعليم الرسمي الفرنسي عمد إلى بقائه حكرا على الأوروبيين سوى القلة القليلة من الأهالي، وفي هذا الصدد تذكر بعض الإحصائيات التي تتعلق بالتعليم الثانوي بالنسبة للأهالي حيث لم تتجاوز النسبة سنة 1954 الـ3.29 بالمائة وبقيت على حالها حتى سنة 1960، حيث بلغت 3.95 بالمائة بفارق طفيف جدا. أما في القرى والبوادي، فقد ظلت المدارس الفرنسية تسيطر على التعليم بنسب متفاوتة حتى انعقد مؤتمر الصومام بتاريخ 1956/08/20، الذي نظم التعليم وأعطى له نفسا جديدا، وبهذا بدأت بعض القيادات في الولايات تبحث عن إيجاد منح وأماكن للدراسة لبعض الطلاب في المشرق العربي. وقد وضعت الثورة بداية من سنة 1956 برنامجا لبناء المدارس في كل قرية، حيث أصبح من الواجب تعليم الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية عشر، وبرمجت في هذا الصدد حوالي 120 مدرسة لكل ولاية، كما كان جيش التحرير يوزع الملابس على التلاميذ، ويمنح لهم الكتب والكراريس مجانا تشجيعا لهم وفي هذا الشأن تم توزيع قرابة الألف بذلة في شهر أوت 1957 على الأطفال في الولاية الرابعة. وانتشرت هذه المدارس على ربوع البلاد، وبدأت تعطي ثمارها خاصة في الولاية الثالثة القبائل الكبرى” ، التي استهدفت من طرف عملية التبشير منذ أوائل العهد الاستعماري، حيث أعطت المدارس القرآنية العصرية نتائج باهرة، حيث تقرر بداية سنة 1957 أن تتولى كل قرية مسؤولية تعليم أطفالها البالغين من الدراسة، بالإضافة إلى تعليم الجنود ساعتين في اليوم ثلاثة أيام في الأسبوع. واستطاع هذا التعليم، أن يحافظ على استمراريته أيام ثورة التحرير، إذ بقي المعلمون يؤدون هذه الرسالة ومواصلتها في الجبال والكهوف خاصة حين دمرت القرى المحررة عن آخرها وأصبحت مناطق محرمة، لذا استمرت هذه المدارس وأصبحت تمثل منارات تضيء السبل وتنعش الأمل، كان فيها تلاميذ المواطنين المكافحين من مسيلين وجنود يكونون صفوفا في هذه المدارس تشبه كتائب وصفوف جيش التحرير.
التعليم يستهدف مساجين الثورة..
والتعليم خلال الثورة، طال المساجين الذين لم يكونوا في عزلة عن العالم الخارجي، بل كانوا على اتصال متين بالنظام السياسي لجبهة التحرير، والنظام العسكري لجيش التحرير، لذا كانت التعليمات تأتي من الخارج فتنفذ وكان التعليم إجباريا في السجون ينفذه مختصصون في هذا الميدان.
هذا وساهمت المدارس الحرة في تطوير التعليم خلال الثورة التحريرية ومن نماذج هذه المدارس المؤسسة الجزائرية للتعليم باللغة العربية واللغة الفرنسية وتأسست هذه الجمعية بتاريخ 26 أوت 1954 بمدينة قسنطينة، يقع مقرها في نهج الرامي السابع رقم 2 tirailleur 7 Rue du) نهج ابن دلول عبد المجيد اليوم)، أعلن عنها في الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية العدد رقم 237 في 1954/10/10، وهذا محتوى نص الإعلان: “في أول أكتوبر 1954 تأسست في عمالة قسنطينة المؤسسة الجزائرية للتعليم باللغة العربية واللغة الفرنسية وهدفها فتح مدارس تقدم تعليما ابتدائيا باللغة العربية واللغة الفرنسية موجها للأطفال، كما تقدم تعليما مكملا مهنيا”. وكانت تهدف هذه الجمعية في قانونها الأساسي، أن تشمل كل عمالة قسنطينة ثم الوطن كله وهو البند الوحيد الذي اختلفت به عن باقي الجمعيات الأخرى.وفي خضم هذه التحديات، يظل التعليم في الجزائر شاهدًا على العزم اللافت للأجيال السابقة والحالية، الذين يعملون جاهدين لضمان مستقبل أفضل للبلاد من خلال بناء جيل مثقف قادر على مواجهة تحديات العصر بثقة وإيمان بالقدرة على التغيير والتطور. من خلال التاريخ العريق للتعليم في الجزائر خلال الثورة وبعد الاستقلال، نجد أنها تجربة التعليم خلال الثورة ملهمة تذكرنا دائمًا بأهمية العلم والمعرفة في بناء المستقبل وتحقيق الازدهار والتقدم، حيث مع حلول فترة الاستقلال، عكفت الحكومة الجزائرية على تطوير البنية التحتية التعليمية وتحسين جودة التعليم. شهدت البلاد إنشاء المزيد من المدارس والجامعات، وتم تعزيز البرامج التعليمية لتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة. كما اهتمت الحكومة، بتعزيز التعليم العالي وتشجيع الأبحاث العلمية لتعزيز التقدم والابتكار في مختلف المجالات.
هذه تحديات الجزائر بعد الاستقلال لتكوين كوادر من أبناء الوطن

وعلى مسار ستين سنة من البناء في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، لم يكن هيّنا على الجزائر المستقلة، فمن جامعة يتيمة موروثة عن الحقبة الاستعمارية لم يكن يدرس بها إلا قلة قليلة من الطلبة الجزائريين، تحصي الجزائر اليوم أزيد من 110 مؤسسات جامعية يزاول بها أكثر من مليون و700 ألف طالب دراستهم وفق برامج ومناهج وتخصصات تواكب مستجدات العصر في طريق ترسيخ استقلالية الجزائر علميا واقتصاديا.
والجزائر أدركت منذ الاستقلال، أهمية تكوين كوادر من أبناء الوطن يتولون تسيير هياكل الدولة ولم تتأخر في إنشاء أول جامعة جزائرية بمدينة السانيا في عاصمة الغرب وهران لتتوالى مسيرة تدعيم قطاع التعليم العالي والبحث العلمي بهياكل ومنشآت عبر ربوع الوطن وتخصصات على مدار الست عقود الماضية، تتماشى وتوجهات الجزائر الاقتصادية لتصل اليوم إلى أقطاب جامعية وتكنولوجية ونسيج جامعي يضم 111 مؤسسة جامعية، منها 54 جامعة ومدارس وطنية ومعاهد عليا، تخرّج منها أزيد من 5 ملايين طالب إلى غاية اليوم. وحسب المستشار الإعلامي لوزير التعليم العالي والبحث العلمي، مرسلي لعرج، فإن البحث العلمي والتطور التكنولوجي، كان ولا يزال أولوية وطنية تعكس إرادة الدولة الجزائرية في تعزيز العلم والتكنولوجيا، ، وذلك انطلاقا من التوجه الذي وضعه الرئيس الراحل هواري بومدين الذي أسس لقاعدة صناعية كبرى كمركب الحجار والصناعات الميكانيكية وصناعة الحديد والتعدين وأرفقها بأول صرح تكنولوجي علمي وطني خالص وهو “جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين “بباب الزوار. وأبرز المستشار، أن أهم المحطات والإصلاحات التي مرت بها الجامعة الجزائرية التي لم تكن تتوفر إلاّ على 82 أستاذا جامعيا لكل 1300 طالب ليصل الرقم اليوم الى أكثر من 63 ألف أستاذ دائم يؤطر 1.700.000طالبا. وتبرز رهانات الجامعة الجزائرية اليوم، وفق تعهدات رئيس الجمهورية، في تعزيز التوجه نحو التركيز على العلوم والتكنولوجيا والعلوم الدقيقة كالذكاء الاصطناعي والرياضيات وإنشاء مدرستين وطنيتين عليتين “المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي” و”المدرسة العليا للرياضيات”. وأوضح المستشار لعرج، أن تعهدات الرئيس في هذا المجال، تتجسد اليوم من خلال منح الاستقلالية للمؤسسات الجامعية وإعطاء سلطة التقدير لرؤساء الجامعات بهدف تكييف عروض التكوين والبحث علمي مع هذه الرؤية الجديدة، بالإضافة إلى استحداث قطاعات وزارية جديدة تمكن الطلبة وخرجي الجامعات أصحاب، الفكر الابتكاري، من تجسيد مشاريعهم للمساهمة في بناء الجزائر الجديدة.
سامي سعد










