-
من الحقل إلى المخزن: مقاربة تضمن الأمن الغذائي
-
حماية الفلاح من الخسارة هي حماية للسوق من الاضطراب
-
الوفرة المنتظمة طريق مباشر لحماية القدرة الشرائية
في سياق التحديات المتزايدة التي تعرفها الأسواق الفلاحية، وما تفرضه التحولات المناخية والظرف الدولي من ضغوط على سلاسل التموين، أعاد مجلس الوزراء الأخير برئاسة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، تسليط الضوء على أحد المحاور الجوهرية في معادلة الأمن الغذائي، والمتعلق بـ “التخزين الهادف” كأداة دولة لحماية الفلاح وضمان استقرار الأسعار.
فالقرار القاضي بتكليف وزيري الفلاحة والداخلية بتنسيق الجهود ومنع تكبّد الفلاحين خسائر ناتجة عن كساد بعض المحاصيل، يندرج ضمن مسار متكامل يعكس وعيا مؤسساتيا بأهمية الانتقال من منطق التدخل الآني إلى منطق التنظيم المسبق، حيث يصبح التخزين حلقة مركزية في ضبط السوق، وتثمين الإنتاج، وبناء احتياطي وطني قادر على امتصاص الصدمات وحماية القدرة الشرائية للمواطن، في إطار رؤية دولة تراهن على الاستباق والاستدامة.
جاء توجيه رئيس الجمهورية المتعلق باللجوء إلى التخزين الهادف، كحلّ لمنع تكبّد الفلاحين خسائر ناتجة عن كساد بعض المحاصيل، ضمن قراءة شاملة لوضع السوق الفلاحية وتوازناتها. فالقرار الصادر عن مجلس الوزراء الأخير يعكس انتقال الدولة إلى مرحلة أكثر دقة في إدارة الملف الفلاحي، قوامها الربط بين الإنتاج والتخزين كمسارين متلازمين لا يمكن الفصل بينهما، خاصة في الشعب ذات الاستهلاك الواسع. ويُفهم من هذا التوجيه، أن الدولة باتت تنظر إلى التخزين كأداة سيادية لحماية الإنتاج الوطني وضمان استمراريته. فغياب التخزين المنظم كان، لسنوات، أحد الأسباب الرئيسية لاختلال السوق، حيث يجد الفلاح نفسه مضطرا لتسويق محصوله في آجال قصيرة، ما يجعله عرضة لتقلبات الأسعار أو الخسارة المباشرة، وهو ما سعت السلطات العليا إلى معالجته من جذوره. كما يعكس القرار إدراكا رسميا، بأن معالجة ظاهرة الكساد لا يمكن أن تتم عبر حلول آنية أو تدخلات ظرفية، بل عبر بناء منظومة متكاملة تتيح امتصاص فائض الإنتاج في مواسم الذروة، وإعادة ضخه في السوق وفق رزنامة مدروسة تضمن التوازن بين العرض والطلب. ومن هذا المنطلق، يصبح التخزين الهادف حلقة تنظيمية ضرورية تسبق التسويق وترافقه. ويشير هذا التوجه أيضا، إلى حرص الدولة على الانتقال من منطق “إطفاء الأزمات” إلى منطق الوقاية المسبقة، حيث يُنظر إلى التخزين باعتباره وسيلة لحماية الفلاح من جهة، وضمان استقرار الأسعار للمستهلك من جهة أخرى، بما يعكس مقاربة متوازنة تُراعي مختلف حلقات السلسلة الفلاحية، وتُترجم القرار السياسي إلى خيار استراتيجي طويل المدى.
من التوجيه إلى الميدان.. قراءة واقعية لمتطلبات القطاع
يُجمع متابعون للشأن الفلاحي في تصريحات اعلامية متفرقة جمعتها “الموعد اليومي” على أن توجيهات مجلس الوزراء الأخيرة تعكس قربا واضحا من الواقع الميداني الذي يعيشه الفلاح، حيث لم يعد الإشكال مطروحا في حجم الإنتاج بقدر ما يتمحور حول كيفية تثمينه بعد الجني. فخلال السنوات الماضية، أظهرت التجربة أن وفرة المحاصيل، في غياب أدوات التخزين الكافية، قد تتحول من فرصة اقتصادية إلى عبء ثقيل، ما يستدعي تدخلا منظما يواكب التحولات التي يعرفها القطاع. وفي هذا السياق، يبرز التخزين الهادف كحل عملي لامتصاص فائض الإنتاج، خاصة في مواسم الذروة التي تشهد تدفق كميات كبيرة من الخضر والفواكه والحبوب نحو السوق في فترة زمنية قصيرة. هذا الواقع كان يضع الفلاح أمام خيارات محدودة، إما التسويق السريع بأسعار منخفضة، أو ترك جزء من المحصول عرضة للتلف، وهو ما شكّل ضغطا دائما على المردودية والاستقرار. وتكشف المعطيات الميدانية، أن غياب مراكز التجميع القريبة ومخازن التبريد المجهزة كان من بين أبرز التحديات التي تواجه الفلاحين، خصوصا في المناطق ذات الإنتاج الواسع. وقد أدى ذلك، في بعض المواسم، إلى خسائر معتبرة في مرحلة ما بعد الجني، ليس بسبب ضعف الإنتاج، بل نتيجة نقص الهياكل التي تضمن حفظ المنتوج في ظروف ملائمة. ومن هنا، يظهر أن التوجيه الرئاسي جاء استجابة مباشرة لهذه المعطيات، عبر التأكيد على التنسيق بين وزارتي الفلاحة والداخلية لتوفير آليات عملية تحمي الفلاح من الخسارة، وتحوّل وفرة الإنتاج إلى عنصر قوة في السوق الوطنية. وهو مسار يعكس فهما عميقا لتعقيدات الميدان، وسعيا لإرساء توازن دائم بين الجهد الإنتاجي والقدرة على استيعابه وتنظيمه.
الآليات المعتمدة.. من التخزين التقليدي إلى المنظومة المنظمة
ويرى المختصون، أن الانتقال نحو التخزين الهادف لا يرتبط فقط ببناء هياكل جديدة، بل يقوم أساسا على تغيير طريقة تسيير المنتوج الفلاحي بعد الجني، عبر منظومة متكاملة تبدأ من مراكز التجميع وتنتهي بضبط المخزون الوطني. فالدولة، من خلال برامجها الجارية، تعمل على تعميم مراكز جوارية قريبة من مناطق الإنتاج، ما يخفف الضغط عن الفلاح ويقلص تكاليف النقل ويحد من التلف السريع للمحاصيل. وتندرج صوامع تخزين الحبوب ومخازن التبريد ضمن صلب هذه الآليات، باعتبارها أدوات استراتيجية تسمح بتخزين المنتوج في ظروف مراقبة، تحافظ على جودته وتضمن تسويقه على مدار السنة. وتشير المعطيات المتداولة إلى أن رفع قدرات التخزين الوطنية، خاصة في الشعب الاستراتيجية، يهدف إلى خلق أريحية حقيقية خلال مواسم الحصاد، وتحويل الوفرة إلى مخزون منظم بدل أن تتحول إلى اختلال ظرفي في السوق. كما تلعب التعاونيات الفلاحية دورا محوريا في إنجاح هذا المسار، إذ تُعد الإطار الأنجع لتنظيم عمليات التجميع والتخزين والتسويق بشكل جماعي ومنضبط. فاعتماد هذا النموذج يسمح بتجاوز التصرفات الفردية العشوائية، ويمنح الفلاح قدرة أكبر على التفاوض والتخطيط، في ظل رؤية واضحة لحجم الإنتاج والكميات المخزنة وتوقيت طرحها في السوق. ويواكب هذا التوجه إدماج أدوات التسيير الحديثة، بما في ذلك الرقمنة وأنظمة المتابعة، لضمان الشفافية وتتبع مسار المنتوج من الحقل إلى المستهلك. وهو ما يعكس، في مجمله، توجّها عمليا لبناء منظومة تخزين منظمة ومرخصة، تُكرّس التخزين كآلية ضبط واستقرار، لا كمصدر اضطراب أو سوء فهم، وتضع الأساس لمرحلة جديدة في تسيير الإنتاج الفلاحي.
الأثر المباشر.. حماية الفلاح واستقرار السوق
وتُجمع القراءات الميدانية على أن التخزين الهادف يترك أثرا مباشرا وإيجابيا على وضعية الفلاح، إذ يحرره من ضغط التسويق السريع الذي كان يفرضه الخوف من تلف المنتوج. فمع توفر مرافق التخزين، يصبح الفلاح قادرا على اختيار توقيت البيع المناسب، بعيدا عن منطق الاستعجال الذي كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى بيع المحاصيل بأسعار متدنية لا تعكس كلفة الإنتاج ولا الجهد المبذول. ويمتد هذا الأثر ليشمل السوق الوطنية، حيث يسمح التخزين المنظم بضبط تدفق المنتوجات، ومنع الاختلالات الظرفية التي تنتج عن الوفرة المفاجئة أو الندرة الموسمية. فوجود مخزون مضبوط يتيح تزويد الأسواق بشكل تدريجي، ما يساهم في استقرار الأسعار ويحد من التقلبات الحادة التي كانت تؤثر على القدرة الشرائية للمواطن، خاصة في المنتجات ذات الاستهلاك الواسع. كما ينعكس هذا التوجه إيجابا على العلاقة بين مختلف الفاعلين في السلسلة الفلاحية، من منتجين وتجار وموزعين، إذ يعزز مناخ الثقة والشفافية، ويقلص الفوارق غير المبررة بين سعر المنتج عند الفلاح وسعره النهائي عند المستهلك. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى التخزين الهادف كحلقة تنظيمية تسمح بإعادة التوازن إلى السوق، دون المساس بحرية النشاط الاقتصادي. ويؤكد مختصون، أن هذا الأثر يُقاس بالاستقرار الذي يخلقه على المدى المتوسط، حيث يصبح الإنتاج الفلاحي أكثر قابلية للتخطيط، وتتحول الوفرة إلى عنصر قوة بدل أن تكون مصدر قلق. وهو ما يعكس جوهر المقاربة المعتمدة، التي تجعل من التخزين أداة لحماية الفلاح، وفي الوقت نفسه ركيزة لضمان أمن السوق واستقرارها.
التخزين.. رافعة للأمن الغذائي
وفي الأفق القريب، يُنتظر أن يتحول التخزين الهادف من إجراء ظرفي لمعالجة اختلالات السوق إلى ركيزة دائمة ضمن السياسة الفلاحية الوطنية، بما يسمح ببناء منظومة إنتاج أكثر توازنا واستدامة. فترسيخ ثقافة التخزين المنظم يفتح المجال أمام التخطيط طويل المدى، ويمنح الدولة والفلاحين معا رؤية أوضح لحجم الإنتاج والمخزون، وهو عنصر أساسي في أي استراتيجية تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي. وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن توسيع قدرات التخزين، خاصة في مناطق الإنتاج الكبرى، سيواكب الارتفاع المنتظر في المحاصيل خلال السنوات المقبلة، نتيجة توسع المساحات المزروعة وتحسن المردودية. هذا التوجه يجعل من التخزين صمام أمان حقيقي، لا يقتصر دوره على حماية المنتوج، بل يمتد إلى تأمين احتياطي استراتيجي قادر على مواجهة التقلبات المناخية أو الاضطرابات التي قد تمس سلاسل الإمداد عالميًا. كما يفتح هذا المسار آفاقا جديدة لتطوير الصناعات التحويلية المرتبطة بالفلاحة، إذ يشكل توفر المادة الأولية المخزنة بانتظام شرطا أساسيا لإطلاق مشاريع تحويل غذائي ذات قيمة مضافة. وبذلك، يتحول التخزين من وظيفة تقنية إلى أداة اقتصادية تساهم في خلق الثروة، ودعم التشغيل، وتعزيز تنافسية المنتوج الوطني داخل السوق وخارجها. وفي هذا السياق، يُنظر إلى القرار الرئاسي الأخير باعتباره خطوة تأسيسية في مسار أوسع، يعكس رؤية استشرافية تجعل من الفلاحة قطاعا استراتيجيا متكامل الحلقات. فبترسيخ التخزين الهادف، تضع الدولة لبنة أساسية لبناء منظومة غذائية قوية، قادرة على حماية الفلاح، استقرار السوق، وتأمين حاجيات البلاد بثقة أكبر في المستقبل. التوجيه الرئاسي المتعلق بتعزيز التخزين الهادف، يبرز كخيار استراتيجي يعكس وعيا عميقا بطبيعة التحديات التي تواجه القطاع الفلاحي، ويؤكد أن حماية الفلاح واستقرار الأسعار لا يمكن أن يتحققا دون التحكم في حلقات ما بعد الإنتاج. فالتخزين، كما تكرّسه هذه المقاربة أصبح جزءا من رؤية شاملة تهدف إلى ضبط السوق، عقلنة التوزيع، ومنح الفلاح هامش أمان يسمح له بالإنتاج في ظروف أكثر استقرارا. ويكشف هذا التوجه كذلك، عن انتقال تدريجي نحو سياسة فلاحية مبنية على الاستباق بدل ردّ الفعل، حيث يتم التعامل مع وفرة الإنتاج باعتبارها فرصة يجب تثمينها، لا إشكالا ظرفيا يجب التخلص منه بسرعة. ومن خلال ربط التخزين بالتعاونيات، مراكز التجميع، والرقمنة، تتعزز قدرة الدولة على مرافقة الفلاحين ميدانيا، وضمان شفافية أكبر في مسار المنتوج من الحقل إلى المستهلك، بما يحافظ على التوازن بين العرض والطلب ويحد من التقلبات غير المبررة في الأسعار. وفي أفق أوسع، يؤشر هذا المسار إلى أن التخزين الهادف بات أحد أعمدة الأمن الغذائي الوطني، وعنصرا لا غنى عنه في بناء سيادة غذائية حقيقية. فحين تُدار وفرة الإنتاج بعقلانية، وتُحمى المحاصيل من التلف، ويُمنح الفلاح الثقة في استمرارية الدعم، تتحول الفلاحة إلى رافعة اقتصادية واجتماعية فاعلة. وهنا، يتأكد أن القرار الأخير حلقة أساسية في مشروع طويل النفس، يجعل من الاستقرار الغذائي خيارا استراتيجيا دائما، لا مجرد استجابة ظرفية لواقع السوق.