وقفة لتجديد العهد مع الشهداء الذين دفعوا دماءهم فداء للوطن

الجزائر تحيي الذكرى 63 لأحداث 17 أكتوبر 1961

الجزائر تحيي الذكرى 63 لأحداث 17 أكتوبر 1961
  • يوم تلوّن نهر السين بدماء الجزائريين

  • عربون وفاء من جزائريي المهجر للوطن الأم

 

تحيي الجزائر، اليوم الخميس، ذكرى مجازر 17 أكتوبر 1961، وهو اليوم الذي خرج فيه الجزائريون المغتربون بفرنسا في احتجاجات سلمية قابلتها الشرطة الفرنسية بوحشية كبيرة، حولت تلك المظاهرات إلى مجازر اعتبرها المؤرخون الأكبر في أوروبا.

فضحت ممارسات الشرطة الفرنسية السياسة الإجرامية للدولة الفرنسية الاستعمارية، وبالمقابل أبانت تلاحم أبناء الشعب الجزائري داخل الوطن وخارجه، واعتزازهم بهويتهم وتمسكهم بوحدتهم.

 

البعد عن الوطن لا يعني الانفصال عنه

تعد مجزرة نهر السين بباريس من بين المحطات الكثيرة التي أبان فيها الجزائريون بالمهجر عن ارتباطهم الوثيق بوطنهم الأم، حيث أن الجالية كانت تمثل المحرك الأساسي والمحيط الحيوي الذي استمدت منه الثورة التحريرية دعمها.

وقد أزعج هذا الدور الكبير والفعال لأفراد الجالية السلطات الفرنسية، وجعلها تفرض حصارا على تحركات وتنقلات وحتى اتصالات الجزائريين إلى حد فرض حظر التجوال واعتقال أعداد كبيرة من المهاجرين وإعادتهم إلى السجون والمعتقلات في الجزائر.

ودفع هذا الأمر بجبهة التحرير الوطني إلى التخطيط لمظاهرات 17 أكتوبر السلمية من خلال تجنيد كل أطياف الجالية من متعاطفين ومناضلين، إلا أن السلطات الفرنسية قابلتها بأبشع مظاهر العنف والوحشية، بالإضافة إلى تطبيق سياسة التعتيم وطمس الحقائق، وكانت النتيجة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ولا يمكن العفو عن مرتكبيها، وتبقى مستمرة جنائيا وسياسيا ضد الدولة الفرنسية.

وقد شهدت العاصمة الفرنسية في ليلة 17 أكتوبر 1961 مذبحة حقيقية في حق أبرياء عزل، حيث قامت قوات الأمن بأمر من قائد الشرطة لمنطقة السين، موريس بابون، المدان سنة 1998 بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بقمع مظاهرة سلمية دعت إليها فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني تنديدا بحظر التجوال المفروض على “مسلمي فرنسا الجزائريين”، واستجاب لهذا النداء عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال.

وأسفرت هذه المجزرة الدموية التي تواصلت إلى ما بعد ليلة 17 أكتوبر برمي عشرات المتظاهرين في نهر السين بعد قتلهم رميا بالرصاص أو بعد تعرضهم للضرب، كما تم وضع عدد كبير منهم في السجون، وذلك في أعنف قمع دولة سببته مظاهرة شارع بأوروبا الغربية في التاريخ المعاصر، مثلما ذكره المؤرخان البريطانيان جيم هوز ونايل ماك ماستر في مؤلفهما “الجزائريون، الجمهورية ورعب دولة” الذي صدر سنة 2008.

 

خرجوا احتجاجا على الظلم وللمطالبة بالاستقلال

أطلقت الشرطة الفرنسية بأمر من محافظ شرطة باريس “موريس بابون” يوم 17 أكتوبر 1961 النار على جزائريين مهاجرين نزلوا إلى شوارع باريس في مسيرات ضخمة، قدّر المشاركون فيها بالآلاف بدعوة من جبهة التحرير الوطني احتجاجا على قانون صدر ضدهم، وللمطالبة باستقلال الجزائر، التي كانت قد تجاوزت قرابة سبع سنوات من الكفاح المسلح حينها.

وتعود الأحداث إلى الخامس من أكتوبر 1961 عندما أصدر بابون أمرا بحظر تجوال الجزائريين من الساعة الثامنة مساء وحتى الخامسة والنصف صباحا، واعتبر المهاجرون الجزائريون وقتها هذا الحظر عنصريا وتعسفيا.

وفي 17 أكتوبر1961 وبالضبط في الثامنة مساء خرج آلاف الجزائريين في باريس في مظاهرات سلمية وتجمعوا في الساحات العامة للتنديد بالقرار، ولإبلاغ السلطات الفرنسية بمطالب عبرت عنها شعاراتهم التي تقول “فليسقط حظر التجوال.. تفاوضوا مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.. الاستقلال للجزائر.. تحيا جبهة التحرير”.

وهاجمت قوات الشرطة المتظاهرين الجزائريين وقتلت العشرات منهم عمدا في الشوارع ومحطات مترو الأنفاق، وألقت بالعشرات منهم في نهر السين حتى طفت جثثهم على سطحه، في عمليات قمع للمسيرات لا يمكن التحديد بدقة عدد ضحاياها.

 

الاعتقال لمن نجا من الرمي والقتل

يذكر مؤرخون وكتاب شهدوا الأحداث أن الشرطة اعتقلت نحو 12 ألف جزائري واحتجزتهم في مراكز الشرطة وفي محتشدات أنشأتها لهم في قصر الرياضات في باريس وقصر المعارض، وتعرضوا هناك للاستجواب والإهانة والضرب والتعذيب والقتل.

وفي شهادة سابقة بثتها قناة “الجزيرة” الفضائية، أكد سعيد بقطاش -أحد المتظاهرين آنذاك- أن تلك المظاهرات سرعان ما تحولت إلى مجازر، وأن قوات الشرطة الفرنسية هجمت على المتظاهرين بالهراوات والرصاص الحي، وألقت بعض المتظاهرين مكبلين في نهر السين، وفي اليوم التالي طفت الجثث على سطح الماء، وقال سعيد بقطاش إن آلاف الجزائريين اعتقلوا في تلك المظاهرات، مشيرا إلى أن بعضهم مات تحت التعذيب.

وعبر ذات الفضائية، قال المؤرخ الجزائري حسن زغيدة إن ما حدث في مظاهرات 17 أكتوبر هو جريمة دولة منظّمة، تُعاقب عليها جميع القوانين الدولية ولا تموت بالتقادم. وكشف أن مجازر 17 أكتوبر جرت وسط تعتيم إعلامي، حيث منعت السلطات الفرنسية حضور الصحافة والكتابة عن المجزرة، كما تجاهلت شكاوى ذوي المفقودين في المظاهرات.

 

المجازر بعيون الأجانب

من جهتها، قالت الناجية الفرنسية من المجزرة مونيك هيرفو إنها شاهدت بأم عينيها كيف أطلق عناصر من الشرطة النار على الجزائريين، وكيف كانوا يلقون بالجثث في النهر.

كما وصف المؤرخان البريطانيان جيم هاوس ونيل ماك ماستر ما تعرض له الجزائريون يوم 17 أكتوبر في كتابهما “الجزائريون، الجمهورية ورعب الدولة” بأنه “أعنف قمع لمظاهرة في أوروبا الغربية في التاريخ المعاصر”.

وكان المؤرخ جان لوك إينودي الذي توفي سنة 2014 قد أحيا من خلال مؤلفه “معركة باريس” تلك الأحداث الأليمة بتطرقه إلى مجزرة بقيت في طي النسيان لعقود عدة.

وبفضل الأبحاث التي قام بها، تمكن هذا الأكاديمي من تسليط الضوء على جزء هام من تلك الوقائع، لاسيما من خلال الكشف عن قائمة لـ 390 جزائريا راحوا ضحية القمع الدموي لشرطة باريس آنذاك.

 

قتل ومعاملة وحشية

وقد بلغ عدد ضحايا عنف الشرطة مئات القتلى إلى جانب آلاف الجرحى والمفقودين، في حين أن شهادات أشخاص نجوا من الموت تشير إلى طرق وحشية لا مثيل لها، واصفين مناظر بشعة لعشرات الجثث الطافية فوق مياه نهر السين.

ولم تكتف الإدارة الاستعمارية بأعمال القتل بل قامت بتوقيف زهاء 15 ألف جزائري وجزائرية خلال تلك الأحداث، تم تحويلهم إلى قصر الرياضات وحديقة المعارض وملعب “كوبيرتين” ليتم اعتقالهم في ظروف مأساوية، حيث بقوا لمدة طويلة دون علاج وأكل، مثلما أكده محمد غفير المعروف بـ “موح كليشي” الذي كان وقتها مسؤولا عن جبهة التحرير الوطني في منطقة شمال باريس.

ق. م