مرحلة جديدة من التأثير الهادئ داخل المنظمة الطاقوية

الجزائر في “أوبك+”.. انضباط إنتاجي ورؤية استراتيجية هادئة

الجزائر في “أوبك+”.. انضباط إنتاجي ورؤية استراتيجية هادئة
  • لماذا اختارت الجزائر زيادة إنتاجها بـ11 ألف برميل فقط؟

 

قررت الجزائر هذا الأسبوع، المساهمة في رفع الإنتاج الجماعي للنفط ضمن مجموعة “أوبك+”، بزيادة قدرها 11 ألف برميل يوميا بدءا من سبتمبر المقبل.

هذا القرار، جاء عقب اجتماع وزاري شاركت فيه الجزائر مع سبع دول من التحالف، بهدف تقييم الوضع الراهن للسوق النفطية العالمية وتعديل الإنتاج بما يتماشى مع تقلبات الطلب والأسعار. ورغم بساطة الرقم من حيث الكمية، إلا أن رمزيته السياسية والاقتصادية تفتح المجال لتحليل أعمق لموقع الجزائر داخل هذا التكتل وتأثير الخطوة على سياستها الوطنية والطاقوية. جاء القرار الأخير الصادر عن اجتماع وزاري ضم الجزائر وسبع دول أخرى من مجموعة “أوبك+” لرفع إنتاج النفط تدريجيا ابتداء من سبتمبر، ليعكس حالة من الترقب الحذر التي تسود الأسواق النفطية العالمية. فالعالم لا يزال يتأرجح بين بوادر تعافٍ اقتصادي تدريجي واضطرابات جيوسياسية مزمنة، بينما تتزايد التحديات المرتبطة بتحولات الطاقة والتغيرات في سلاسل الإمداد العالمية. في هذا المناخ المتقلب، سعت المجموعة إلى اتخاذ قرار متوازن، لا يربك السوق، ولا يحرم الدول المنتجة من فرص استعادة بعض العائدات التي تراجعت خلال السنوات الأخيرة. كان لافتا في مخرجات الاجتماع، أن رفع الإنتاج جاء بكمية محدودة نسبيا –547 ألف برميل يوميا موزعة على ثماني دول– وهو ما يشير إلى أن “أوبك+” لا تزال متمسكة بسياسة الخطوات الصغيرة المدروسة بدل القفزات المفاجئة. هذا التوجه يعكس فلسفة إدارة السوق التي اعتمدتها المجموعة منذ بداية أزمة كورونا، حين بدأت سياسة التخفيضات الطوعية الهادفة إلى امتصاص الفائض والحفاظ على استقرار الأسعار. واليوم، تعود “أوبك+” إلى ضخ كميات إضافية، لكن بعين يقظة تتابع المؤشرات العالمية عن كثب. يبدو واضحا أن “أوبك+” تسير وفق قاعدة “التعديل المحسوب”، وهي مقاربة ترمي إلى الحفاظ على نوع من التوازن بين مصالح الدول الأعضاء، وتوجهات السوق العالمية. فبين دول تتطلع إلى زيادة عائداتها النفطية لتحسين مداخيلها العمومية، وأخرى تخشى من العودة إلى زمن الفوائض التي تُغرق الأسواق وتخفض الأسعار، جاء القرار الأخير كحل وسط يحظى بتوافق جماعي. واللافت أن الجزائر كانت من بين الدول التي سعت دائما إلى الدفع نحو هذا النوع من القرارات المتزنة التي تراعي التحديات الاقتصادية من جهة، ومتطلبات الاستقرار من جهة أخرى. الاجتماع الوزاري الذي عُقد عبر تقنية التحاضر المرئي عن بعد، لم يكن فقط مناسبة لمراجعة الحصص الإنتاجية، وشكّل أيضًا منصة لتجديد الالتزام السياسي بين أعضاء “أوبك+”، ولتثبيت آليات التنسيق المستقبلي. فالحفاظ على وحدة الصف داخل المجموعة بات ضرورة حيوية، لا سيما في ظل محاولات بعض القوى الكبرى التأثير على قرارات التحالف وتوجيهها بما يخدم مصالحها الاقتصادية فقط. من هذا المنطلق، اكتسب القرار الجماعي بُعدا استراتيجيا يتجاوز الأرقام، ليؤكد أن “أوبك+” لا تزال تمثل ركيزة أساسية في هيكلة السوق النفطية العالمية. وفي ضوء هذا التوافق، يمكن القول إن القرار جاء نتيجة قراءة شاملة لمجمل العوامل الاقتصادية والجيوسياسية. لقد عبّر عن نضج متزايد في إدارة الملف النفطي، وعن إدراك جماعي لدى الدول المنتجة بأن التنسيق المشترك هو السبيل الوحيد للحفاظ على استقرار السوق، وضمان مصالح كل الأطراف. وهنا، تبرز مساهمة الجزائر كجزء من هذا المسار الهادئ والمدروس، بما يعكس رؤيتها المتوازنة في التعامل مع متغيرات الطاقة العالمية.

 

موقع الجزائر في معادلة الطاقة العالمية

ضمن هذا الإطار الجماعي المتزن الذي رسمته مجموعة “أوبك+”، جاءت مساهمة الجزائر بزيادة إنتاجها بمقدار 11 ألف برميل يوميا ابتداءً من سبتمبر، كمؤشر واضح على انخراطها الفعّال في صون استقرار السوق النفطية، من دون إخلال بالتوازنات الداخلية. ورغم بساطة الرقم مقارنة بالزيادات التي أُقرت في بعض الدول الأخرى، فإن قيمته الاستراتيجية تتجاوز المعطى الكمي، لتعكس موقعا دقيقا تحافظ عليه الجزائر بين الواقعية الاقتصادية والمسؤولية الجماعية. فاختيار الجزائر لهذا المستوى من الرفع يُجسّد مقاربة تقوم على الانضباط داخل التحالف دون المجازفة أو الانزلاق نحو سياسات إنتاجية غير مستدامة. الجزائر، التي لطالما لعبت دورا محوريا في التوفيق بين المصالح المتباينة داخل “أوبك+”، تعي جيدًا أن مجرد الانخراط في التعديل الإنتاجي يمثل رسالة سياسية واقتصادية مزدوجة. فمن جهة، هو إعلان عن التزامها بمقررات المجموعة، ومن جهة أخرى، هو تأكيد لقدرتها التقنية والمؤسساتية على التحرك المرن داخل حدودها الإنتاجية، بما يحفظ مصالحها الاقتصادية دون أن تقع في فخ التضخيم أو الإفراط في العرض. فالـ11 ألف برميل هي تعبير عن توازن دقيق، يُراعي السوق الخارجية والوضع الداخلي معا. يعزز هذه القراءة، أن الجزائر اختارت أن تكون مساهمتها في الزيادة متدرجة، متحكما فيها، ومنسجمة مع طاقتها الإنتاجية الحالية. فهي لا تسعى إلى منافسة على الكم، ولا إلى إثبات الوجود عبر رفع الأرقام، بل تركز على النوعية في الالتزام، وعلى الثبات في الرؤية. وقد أثبتت خلال السنوات الماضية أنها قادرة على الالتزام الدقيق بحصصها، بل والمبادرة أحيانا بالتخفيض الطوعي متى دعت الحاجة، ما أكسبها ثقة شركائها داخل التحالف، ورسّخ صورتها كفاعل عقلاني ومتزن. كما أن هذه الزيادة المحدودة تؤكد أن الجزائر تتحرك ضمن استراتيجية واضحة تحافظ فيها على مواردها الطاقوية من الاستنزاف غير المحسوب، وتراهن في الوقت نفسه على مراكمة الثقة داخل الأطر الجماعية التي تنتمي إليها. وهذا جزء من سياسة أوسع تتبعها الجزائر لتعزيز موقعها في معادلات الطاقة الدولية، كدولة منتجة، وكطرف مسؤول يساهم في استقرار السوق ويطرح بدائل بناءة في وجه التقلبات. وانطلاقا من هذا الدور، فإن مساهمة الجزائر –ولو كانت رمزية من حيث الحجم– تعكس فهما عميقا لطبيعة التوازنات الجديدة في السوق النفطية، واستيعابا لحجم التحولات الجارية في قطاع الطاقة عالميا. إنها مساهمة تضيف إلى رصيد الجزائر الدبلوماسي والطاقوي، وتثبت مجددا أن الحضور النوعي لا يُقاس بعدد البراميل فقط، وإنما أيضا بمدى الانضباط، والقدرة على التكيّف، والتموقع الذكي في قلب معادلات السوق.

 

آثار اقتصادية محتملة على الجزائر

في امتداد لهذا الحضور المدروس والموزون داخل “أوبك+”، تفتح زيادة الجزائر لإنتاجها بـ11 ألف برميل يوميا الباب أمام تساؤلات مشروعة حول الأثر الاقتصادي الفعلي لهذه الخطوة على الداخل الوطني. صحيح أن الكمية تبدو رمزية إذا ما قورنت بالإنتاج الإجمالي الذي يتجاوز المليون برميل يوميا، إلا أن توقيتها، وترافقها مع استقرار نسبي في الأسعار العالمية، يمنحها قيمة مالية محسوسة، خاصة في سياق الجهود الحكومية لتعزيز مداخيل الخزينة العمومية وتقليص الاعتماد على الاقتراض الداخلي. فكل برميل إضافي يُباع بالسعر الحالي يعني هامشا جديدا لتحسين الميزانية العامة ومواجهة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. غير أن القراءة الاقتصادية لهذه الخطوة لا يجب أن تنحصر في زاوية الإيرادات الظرفية فقط، وينبغي إدراجها في إطار أوسع يتعلق بالإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية. فالجزائر، ورغم حاجتها الموضوعية لتعزيز مداخيلها، تدرك أن الإفراط في الإنتاج قد يكون سلاحا ذا حدين، خاصة إذا تزامن مع تراجع في الأسعار العالمية أو تزايد المنافسة من بدائل الطاقة. ومن هذا المنطلق، تبدو الزيادة المحدودة خيارا ذكيا، يسمح بتحقيق عوائد إضافية دون المخاطرة باستقرار السوق أو استنزاف الاحتياطات الاستراتيجية للبلاد. إلى جانب ذلك، فإن هذا التعديل قد يمنح دفعة جديدة لاستثمارات شركة سوناطراك في تطوير الحقول وتحسين البنية التحتية، وهو ما قد ينعكس إيجابا على مردودية القطاع الطاقوي ككل. فالمرونة في تعديل الإنتاج تظل مرتبطة بمدى جاهزية البنى التشغيلية، ومدى قدرة الشركات الوطنية على استيعاب التغييرات دون المساس بنوعية الإنتاج أو كلفته. وهنا تبرز أهمية التوجه الحكومي نحو إعادة هيكلة القطاع وتقوية شراكات التنقيب والتكرير، بما يعزز من القدرة التنافسية للجزائر في السوق الطاقوية الدولية. في المقابل، تظل التحديات قائمة، خصوصا تلك المرتبطة بتقلبات الأسعار في السوق العالمية، والتأثير المباشر لذلك على توقعات الإيرادات. كما أن استمرار الاعتماد الكبير على صادرات المحروقات يشكل معضلة حقيقية أمام تحقيق التنويع الاقتصادي المنشود، وهو ما يجعل من الزيادة الحالية فرصة مؤقتة يجب استغلالها بحذر، لا مجرد غنيمة مالية آنية. فالاستدامة المالية لا تتحقق فقط برفع الإنتاج، وإنما بترشيد العائدات وتوجيهها نحو قطاعات مولّدة للثروة خارج قطاع النفط. وهكذا، فإن الآثار الاقتصادية لقرار رفع الإنتاج تبدو مزدوجة: إيجابية من حيث العائدات المباشرة وتعزيز موقع الجزائر في السوق، ومثيرة للتأمل من حيث ما تطرحه من تحديات تتعلق بالاستدامة والتوازن الهيكلي. وهو ما يفرض ضرورة المضي قدما في الإصلاحات الاقتصادية العميقة، والاستثمار في الطاقات البديلة، لتكون مثل هذه الزيادات التكتيكية نقطة انطلاق نحو استراتيجية شاملة تضمن الأمن المالي والطاقوي على المدى البعيد.

 

التنسيق داخل “أوبك+”.. رهانات المستقبل

وانطلاقا من التحديات الاقتصادية التي تفرضها تقلبات السوق، تبرز أهمية التنسيق داخل مجموعة “أوبك+” كعامل حاسم في الحفاظ على التوازن والاستقرار. فالتحكم في حجم الإنتاج، ورصد تغيرات الطلب العالمي، لا يمكن أن يتم بقرارات فردية معزولة، اذ يتطلب منظومة عمل جماعي تقوم على تبادل المعلومات، وتقييم المخاطر، واتخاذ قرارات سريعة وفعالة. ولهذا الغرض، شدد الاجتماع الوزاري الأخير على مواصلة الاجتماعات الشهرية المنتظمة، وهو ما يعكس نية التحالف في مواكبة تطورات السوق لحظة بلحظة، وتكييف القرارات الإنتاجية وفقًا للمعطيات المتغيرة. الجزائر، التي لطالما كانت من الأصوات الهادئة داخل “أوبك+”، تُجيد لعب أدوار التوازن حين تتباين المصالح، وتُعرف بقدرتها على بناء الجسور بين الدول ذات التوجهات المختلفة. فبفضل تجربتها الطويلة ومصداقيتها العالية، استطاعت الجزائر في أكثر من مناسبة أن تُقرب وجهات النظر بين أطراف بارزة مثل السعودية وروسيا، لا سيما خلال الأزمات التي شهدها السوق العالمي في 2020 و2021. هذا الرصيد الدبلوماسي يُتيح لها اليوم أن تلعب دورا أكثر تأثيرا في هندسة القرارات المقبلة، خاصة في ظل تعقّد المشهد الطاقوي عالميا. في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن مستقبل “أوبك+” مرهون بقدرتها على الحفاظ على تماسكها الداخلي، وسط ضغوط خارجية متزايدة من الدول المستهلكة، ومطالب متنامية بالتحول نحو الطاقات المتجددة. وهنا، تبرز الجزائر كطرف متزن قادر على الدفع نحو حلول وسط، تحفظ المصالح الاقتصادية للدول المنتجة، وتتفادى في الوقت ذاته الدخول في صدام مباشر مع الأطراف الغربية. فالحفاظ على صورة “أوبك+” كمجموعة مسؤولة، لا تسعى فقط للربح، وإنما لضبط السوق وفق منطق استقرار الأسعار، هو أحد الرهانات الكبرى التي تتقاطع مع رؤية الجزائر. وما يضفي أهمية أكبر على هذا التنسيق هو ارتباطه بمستقبل الطاقة ككل، وليس فقط بسوق النفط. فالديناميكيات الجديدة – من قبيل توسع سوق الغاز، وتنامي الطاقة المتجددة، وتزايد الاستثمارات في الهيدروجين – تفرض على “أوبك+” أن تتحول من تحالف نفطي تقليدي إلى منصة أوسع للتفكير الاستراتيجي في مستقبل الطاقة. وهنا يمكن للجزائر أن تقدم مساهمات نوعية، نظرا لانفتاحها المتزايد على مشاريع الانتقال الطاقوي، واهتمامها بتطوير حلول مستدامة، ما يؤهلها لتكون طرفا محوريا في إعادة تشكيل التحالف على المدى الطويل. إن الاجتماع المقبل المرتقب يوم 7 سبتمبر 2025، سيكون لحظة مفصلية لتقييم نتائج الزيادة الإنتاجية، وقياس مدى تفاعل السوق معها، وفتح نقاشات جديدة حول ما إذا كانت هناك حاجة لتعديلات إضافية أو قرارات تكميلية. في هذا الإطار، يُنتظر أن تواصل الجزائر أداء دورها المتزن، عبر الدفع نحو قرارات عقلانية تراعي حساسية المرحلة، وتستند إلى مؤشرات واقعية، وهو ما يجعل من مساهمتها داخل “أوبك+” عنصر توازن لا غنى عنه في معادلة الطاقة العالمية.