أنوار من جامع الجزائر

الحب في الله – الجزء الأول –

الحب في الله – الجزء الأول –

أيها الأحبة، حديثنا اليوم عن عاطفة علوية ربانية، وعن رابطة إيمانية نورانية، تفيض على القلوب بنور السماء، وتتعالى على مقاييس الأرض الفانية، ألا وهي: المحبة في الله، التي هي من أعلى وأصفى مراتب المحبة في الإسلام، بل هي من صميم الإيمان وأوثق عراه. ولقد رفع رسول الهدى ﷺ قدر هذه العاطفة فجعلها قمة الدين وذروته، فقال: “أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله” رواه أحمد، وفي حديث آخر قال ﷺ: “من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان” رواه أبو داود. فالحب في الله ليس ميلا عاطفيا عابرا، ولا هو انفعال بشري كسائر الأهواء، بل هو ربط للوجدان بعُرى العقيدة، وتطهير للقلب من شوائب الدنيا. فلا يكون الحب إلا لمن أحبه الله، ولا تكون الموالاة إلا لمن والاه، ولا يكون البغض إلا لمن عاداه. أيها الإخوة المؤمنون، هناك حب فطري جبلت عليه النفوس، كحب الوالد لولده، وحب الزوج لزوجته، وهذا أمر جبلي لا يُذم في الشرع. وهناك حب طبيعي، كحب الطعام والشراب والمال، وهو حب مباح ما لم يشغل عن طاعة الله. لكن الحب في الله يعلو على ذلك كله؛ لأنه حب منزه خالص لوجه الله، يرفع صاحبه أعلى الدرجات، ويبلغه رضوان رب الأرض والسماوات. عباد الله، إن الحب في الله ليس قولا تردده الألسنة، ولا دعوى تتزين بها المجالس، بل هو حقيقة صادقة تترجمها الأعمال، وتبرهن عليها المواقف، وتختبر عند المحن والشدائد. الحب في الله هو أن يحب المسلم أخاه المسلم لا لغرض دنيوي أو مصلحة شخصية أو قرابة أو منفعة، وإنما لمجرد إيمانه وطاعته لله، ولما يجتمع فيه من صفات الخير والالتزام بشرع الله. معاشر المسلمين، الحب في الله يطهر القلوب من درن الحسد والضغينة، ويغسل الأرواح من دنس البغضاء والعداوة. وإن الأمة لن تقوم لها قائمة إلا بالوحدة والائتلاف، ولا تنهض إلا إذا اجتمعت قلوبها قبل أجسادها. والحب في الله هو الركيزة الأولى لتحقيق هذه اللحمة المجتمعية، فهو الذي يربط بين المؤمنين برابطة العقيدة، فيجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فما أحوج أمتنا اليوم إلى هذه المحبة الصافية؛ لنرتقي فوق خلافات الدنيا، ولنلتحم على كلمة الله، فلا تفرقنا أهواء، ولا تمزقنا مصالح، ولا تعبث بنا فتن. أيها الكرام، إن الأمة التي تقيم علاقاتها على قاعدة “الحب في الله” تقدم للعالم نموذجا حضاريا فريدا، يخالف المجتمعات المادية التي لا تعرف إلا لغة المصلحة والمنفعة. فبينما يبني الناس هناك علاقاتهم على ما يحقق لهم ربحا أو مكانة، يبني المؤمن علاقته بأخيه على الإيمان والتقوى، لا يرجو إلا مرضاة الله. وبهذا تثبت أمة الإسلام أنها تحمل رسالة رحمة وعدل، وتقدم للبشرية بديلا عن صراع المصالح الذي أفسد كثيرا من القلوب والعلاقات. أيها الأحبة في الله، إن المحبة في الله من أعظم القربات، ومن أجل الطاعات، ولها ثمرات عاجلة في الدنيا، وأخرى مدخرة في الآخرة. فمن ثمراتها في الدنيا أنها علامة على صدق الإيمان وصفائه، فقد قال المصطفى ﷺ: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” رواه مسلم. فجعل إفشاء السلام طريقا للمحبة، وجعل المحبة طريقا إلى كمال الإيمان، وكمال الإيمان طريقا إلى الجنة.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر