تصريحات ستورا تعيد ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا إلى الواجهة

الحقيقة التي تطارد باريس.. اعتراف غائب يضغط على الرواية الفرنسية للتاريخ

الحقيقة التي تطارد باريس.. اعتراف غائب يضغط على الرواية الفرنسية للتاريخ
  • لجنة الذاكرة المشتركة.. رهانٌ لكسر الصمت وفتح الأرشيف

  • هجمات اليمين المتطرف تكشف صراعا محتدما حول الماضي الاستعماري

تبدو تصريحات المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، خطوة جديدة تعيد ملف الذاكرة الاستعمارية إلى واجهة النقاش بين الجزائر وفرنسا، بعدما شدّد على ضرورة الاعتراف الرسمي بجرائم الاحتلال، من مجازر وسلب للأراضي وتدمير للمجتمع الجزائري.

وجاءت مداخلته عبر قناة “أل 24 نيوز” لتضع إصبعاً على الجرح الذي لا تزال أطراف في الطبقة السياسية الفرنسية تحاول التهرب منه أو التشكيك فيه، في وقت تدفع فيه الجزائر نحو عمل تاريخي مشترك من خلال اللجنة الجزائرية–الفرنسية للذاكرة، باعتبارها إحدى الآليات التي يمكن أن تعيد ترتيب العلاقة بين الضفتين على أساس الحقيقة أولاً. وفي ظل استمرار غياب هذه الجرائم عن الكتب المدرسية الفرنسية وتزايد الهجمات التي تستهدف كل من يقترب من هذا الملف الحساس، تبرز دعوة ستورا باعتبارها تذكيراً بأن كشف الحقيقة ضرورة تاريخية لإعادة الأمور إلى نصابها. ومع هذا التأكيد الواضح على أهمية المكاشفة التاريخية، يفتح ستورا الباب أمام أولى النقاط الجوهرية في حديثه، والمتعلقة بمسألة الاعتراف بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وهي النقطة التي لا تزال تشكل عقدة تاريخية داخل فرنسا رغم وضوح الوقائع وثقل الذاكرة الجزائرية.

 

الاعتراف بجرائم الاستعمار.. مطلب يؤجَّل منذ عقود

تشدد تصريحات ستورا على أن الاعتراف الرسمي بجرائم الاستعمار بات ضرورة لتصحيح مسار طويل من الإنكار امتد لعقود. فالمجازر التي ارتُكبت بحق الجزائريين، وسلب الأراضي الذي غيّر البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، تمثل حقائق ثابتة وثقها المؤرخون، لكنها لم تتحول بعد إلى موقف سياسي واضح من الدولة الفرنسية، وهو ما يفسر إصرار ستورا على وضع هذا الملف في صدارة النقاش. وتشير خلفية هذا الجدل إلى أن فرنسا منذ الاستقلال، اكتفت غالباً بمواقف سياسية فضفاضة أو مبادرات انتقائية، دون تقديم اعتراف صريح بجرائمها في الجزائر، وهو ما جعل ملف الذاكرة نقطة حساسة في العلاقات الثنائية. ويمثل هذا الصمت الرسمي تراكماً لسياسات الهروب إلى الأمام، خاصة داخل الحكومات الفرنسية المتعاقبة التي فضلت تجنب الاصطدام بالتيارات المحافظة. ويؤكد ستورا، من خلال تصريحاته، أن الأزمة الحقيقية ليست في غياب المعلومات التاريخية، بل في غياب الإرادة السياسية لقول الحقيقة. فبعض الأطراف داخل الطبقة السياسية الفرنسية تفضل تغذية خطاب التشكيك أو التخفيف من حجم الجرائم، وهي المقاربة التي تعرقل أي مصالحة حقيقية مبنية على الاعتراف بالأذى الواقع على الشعب الجزائري خلال 132 سنة من الاحتلال. ومع أن النقاش داخل فرنسا يشهد بين الحين والآخر أصواتاً تطالب بمراجعة الموقف الرسمي، إلا أن ستورا يرى أن الخطوة العملية تبدأ من الاعتراف غير المشروط بالماضي الاستعماري، باعتباره المدخل الوحيد لإعادة بناء جسور الثقة بين الشعبين، وتصحيح صورة تاريخ شوهتها عقود من الصمت أو التلاعب السياسي. وإذا كان الاعتراف يمثل الخطوة الأولى نحو تصحيح مسار الذاكرة، فإن ستورا ينتقل إلى محور آخر أكثر ارتباطاً بالعمل الميداني، وهو آلية التعاون التاريخي بين الجزائر وفرنسا التي أعيد إطلاقها خلال السنوات الأخيرة، باعتبارها الإطار المؤسسي القادر على معالجة الملفات العالقة بموضوعية ومسؤولية.

 

اللجنة المشتركة للذاكرة.. ورشة لإعادة بناء الجسور

يرى ستورا أن إنشاء اللجنة الجزائرية–الفرنسية للتاريخ والذاكرة، بمبادرة من الرئيس عبد المجيد تبون، يمثل خطوة عملية نحو تجاوز سنوات طويلة من سوء الفهم والتوتر. فهذه اللجنة، التي تجمع مؤرخين وباحثين من البلدين، تهدف إلى دراسة الحقائق من مصادرها الأصلية دون أحكام سياسية مسبقة، بما يسمح بإرساء أرضية مشتركة للحقيقة التاريخية. وتعود أهمية هذه اللجنة إلى أنها المرة الأولى التي يتم فيها الاتفاق على إطار رسمي مشترك يعالج ملفات حساسة مثل الأرشيف والمفقودين والمجازر والاستيلاء على الأراضي. وهو ما يمنحها طابعاً مختلفاً عن المبادرات السابقة التي غالباً ما ظلت حبيسة الخطابات أو المناسبات الدبلوماسية دون أن تتحول إلى برنامج عمل فعلي. ويضع ستورا هذه المبادرة في سياق أوسع يتعلق بالحاجة إلى “بناء جسور جديدة بين الضفتين”، وهي عبارة تحمل إشارة واضحة إلى رغبة الجزائر في معالجة الملف من منظور مؤسساتي لا يعتمد على ردود الفعل، بل على عمل تاريخي موثق. ومن هنا تأتي أهمية أن تكون اللجنة فضاءً للبحث العلمي الهادئ بعيداً عن التوترات السياسية الآنية. كما تعكس تصريحات ستورا اقتناعاً بأن التعاون في ملف الذاكرة ضرورة استراتيجية لضمان علاقة متوازنة بين البلدين. فالذاكرة غير المعالجة كانت دائماً نقطة هشاشة في العلاقات الجزائرية–الفرنسية، ونجاح هذه اللجنة في أداء مهامها يمكن أن يفتح صفحة جديدة تقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف المشترك بالتاريخ. ومن هذا المسعى المشترك لقراءة الماضي بعيون الباحثين، ينتقل ستورا إلى واحدة من أكثر النقاط حساسية في حديثه، وهي الحقائق التاريخية المغيّبة داخل الذاكرة الفرنسية الرسمية، خصوصاً ما يتعلق بالمجازر ونهب الثروات وجرائم الاحتلال، وهي معطيات لا تزال –كما يؤكد– بعيدة عن المتون التعليمية والرواية السائدة في فرنسا.

 

حقائق غائبة.. تاريخ لم يُكتب بعد

يشير ستورا إلى أن المرحلة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، الممتدة من 1830 إلى 1962، اتسمت بسلب الأراضي ونهب الثروات وارتكاب مجازر بشعة ضد الجزائريين، وهي وقائع يصنفها ضمن “جرائم ضد الإنسانية”. ورغم أن هذه الحقائق موثقة لدى المؤرخين ومعلومة لدى الباحثين، إلا أنها لا تجد طريقها إلى الكتب المدرسية الفرنسية، ما يجعل الأجيال الجديدة تنشأ على صورة مبتورة للتاريخ.وتكشف هذه الإشارة إلى المناهج الدراسية عن مشكلة أعمق تتعلق بطريقة صناعة الوعي التاريخي في فرنسا. فغياب ذكر الجرائم الاستعمارية من المقررات يساهم في خلق سردية رسمية تتجاهل الفصل الأكثر قسوة من علاقة فرنسا بالجزائر، وهو تجاهل يتيح المجال أمام تيارات سياسية لإنكار هذه الحقائق أو التقليل من شأنها، كما يحدث مع اليمين المتطرف. ويضع ستورا هذا التناقض في إطار الحاجة إلى “إعادة كتابة التاريخ حتى يصبح متاحاً للفرنسيين”، وهي دعوة لا تعني إعادة صياغة الوقائع، بل إعادة إدراجها في الوعي الجماعي الفرنسي. فالذاكرة لا تُصنع فقط عبر الاعتراف السياسي، بل أيضاً من خلال المدرسة، والكتاب، والمقرر التاريخي الذي يبني رؤية المجتمع لماضيه. كما يربط المؤرخ هذه الإشكالية بمسألة الأرشيف، الذي يرى أنه ينبغي أن يكون مفتوحاً أمام الباحثين من الجانبين. فغياب الأرشيف عن متناول الباحثين يحدّ من إمكانيات كشف الحقيقة كاملة، ويجعل السردية التاريخية عرضة للانتقائية والانتقاص. ومن هنا، تصبح عملية إتاحة الأرشيف خطوة ضرورية ليس فقط لإعادة كتابة المناهج، بل لإعادة كتابة التاريخ نفسه كما كان فعلاً، لا كما ترغب بعض القوى السياسية في تقديمه. ومن هذه الإشكاليات التي تمس الوعي التاريخي العام، يمضي ستورا نحو جانب آخر من تعقيدات الملف، وهو الضغوط والهجمات التي يتعرض لها كل من يقترب من هذا التاريخ بموضوعية، حيث تحول بعض الأطراف السياسية في فرنسا دون أي مراجعة نقدية للماضي، خاصة من داخل التيار اليميني المتطرف.

 

هجمات اليمين المتطرف.. مقاومة لفتح الملفات السوداء

يكشف ستورا أن مواقفه المناهضة للاستعمار وعمله على ملف الذاكرة جعلته هدفا لهجمات متكررة من اليمين المتطرف وأصحاب الحنين إلى “الجزائر الفرنسية”. فهذه التيارات، التي لا تزال أسيرة خطاب استعماري قديم، تعتبر أي محاولة لفتح ملفات الماضي تهديداً مباشراً لروايتها السياسية، ولذلك تهاجم كل مؤرخ يطرح الحقائق بموضوعية. وترتبط هذه الهجمات، كما توضح خلفية المشهد السياسي الفرنسي، بصعود تيارات قومية ترفض الاعتراف بالجرائم الاستعمارية لأنها ترى فيه إدانة لماضي “تريد تلميعه” أو عودته في الخطاب. وهو ما يفسر محاولاتها المستمرة التشكيك في المجازر، وإنكار التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، وتغيير مسار النقاش نحو قضايا هامشية بدل مواجهة الحقيقة. ويبرز من خلال تصريحات ستورا أن هذه الهجمات ليست شخصية بقدر ما هي جزء من معركة سياسية داخل فرنسا حول كيفية التعامل مع الإرث الاستعماري. فكلما اقترب الجدل من الحقائق المؤلمة، ازداد توتر الأطراف الرافضة لأي مساءلة تاريخية، ما يعكس حجم المقاومة داخل المشهد السياسي الفرنسي لأي تحوّل جوهري في الخطاب الرسمي. ومع أن هذه التيارات تحاول تعطيل النقاش، إلا أن ستورا يلمّح إلى أن تأثيرها لا يلغي وجود أصوات داخل فرنسا تدرك ضرورة مواجهة الماضي بشجاعة. فالهجمات، مهما اشتدت، تبقى مؤشراً على أن ملف الذاكرة يتحرك، وأن الحقيقة، وإن كانت مؤجلة، لا يمكن إسكاتها إلى الأبد. ومع هذا الجدل الذي يحيط بعمل المؤرخين داخل فرنسا، يصل ستورا إلى الخلاصة التي أراد من خلالها إعادة توجيه النقاش نحو هدفه الأساسي: إعادة الأمور إلى نصابها وكشف الحقيقة كما هي، بعيداً عن الحسابات السياسية أو محاولات طمس الماضي.

 

كشف الحقيقة.. الطريق نحو تصحيح الرواية التاريخية

يرى ستورا أن اللحظة الراهنة تتطلب الانتقال من الجدل إلى الفعل، مؤكداً أن الوقت قد حان لمعرفة ما يمكن فعله عملياً لإعادة كتابة الرواية التاريخية وتصحيح ما شوّهته عقود من الصمت والانتقائية. فالمسألة بالنسبة له خطوة ضرورية لتأسيس رؤية مشتركة للتاريخ بين الجزائريين والفرنسيين تقوم على الحقائق وليس على الخطابات المتوارثة.وتكشف دعوته هذه عن أهمية الأرشيف الذي يعتبره حجر الأساس في أي جهد حقيقي لفهم الماضي. ففتح الأرشيف كاملاً أمام الباحثين من الجانبين يمكن أن يعيد رسم صورة دقيقة للمرحلة الاستعمارية، بما في ذلك المجازر، وعمليات التهجير، والتجارب النووية، وكل الملفات التي ما زالت تثير حساسية داخل المؤسسات الفرنسية. وهو ما يمنح البحث التاريخي استقلاليته ويجنّبه التأويلات السياسية. كما تعكس تصريحات ستورا قناعة بأن معالجة الذاكرة لا تقتصر على الماضي فحسب، بل لها تأثير مباشر على مستقبل العلاقات الجزائرية–الفرنسية. فالرواية التاريخية المنصفة يمكن أن تُخرِج الملف من دائرة التوتر وتضعه في سياق المصارحة، بما يسمح ببناء علاقات متوازنة لا تقوم على الإنكار، بل على الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقائق. ويختتم ستورا رؤيته، بالتأكيد على أن كشف الحقيقة حول الاحتلال الفرنسي للجزائر يظل المدخل الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها. فالإقرار بما حدث ليس استعادة لجراح الماضي، بل خطوة ضرورية لمنع تكرارها، وشرط أساسي لبناء ذاكرة جماعية نزيهة تعطي للتاريخ حجمه الحقيقي، وتضع نهاية للتشكيك والتلاعب بالسرديات الاستعمارية.

م. ع