لم يكن وصول القضية الجزائرية إلى هيئة الأمم المتحدة محض صدفة ولا منة من التاريخ، بل كان إصرارا لازم الحركة الوطنية الجزائرية، ثم قيادة جبهة التحرير الوطني، وبعدها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لخوض معركة مصيرية توفرت كل أسبابها الداخلية والخارجية، من أجل أن ينتهي هذا النضال إلى تقرير المصير والاستقلال.
وكان للدبلوماسية الجزائرية دور كبير أثناء الثورة التحريرية، إن لم نقل عنه رئيسيا في استقلال البلاد، حيث ساهمت التحركات الحثيثة لأعضاء جبهة التحرير الوطني في بلوغ الهدف المنشود الذي اندلعت من أجله الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954، وإذا كان قادة جبهة التحرير الوطني عند تأكيدهم على ضرورة الإعتماد بالدرجة الأولى على العمل المسلح، فإن الأمور تغيرت بعد حوالي 3 سنوات من اندلاع الثورة المجيدة، حيث عرفت هذه السنوات، لاسيما بعد مؤتمر الصومام، تحركات دبلوماسية ركزت بالخصوص على:
– عزل العدو في الميدان الدبلوماسي.
ـ ربح أصدقاء جدد في الداخل والخارج.
ـ الحصول على مساعدات مادية ومعنوية.
ـ تدعيم مؤسسات الدولة الجزائرية قصد الاعتراف بالنظام السياسي لها.
ـ تدويل القضية الجزائرية.
ـ حمل المعاناة الجزائرية والمحن الداخلية إلى الخارج من أجل إبلاغ الرأي العام الدولي بالأعمال الشرسة التي كان الجيش الفرنسي يرتكبها في حق الشعب الجزائري.
مؤتمر “باندونغ”.. نقطة تحول في الكفاح الجزائري

ساهم الوضع الدولي السائد آنذاك في العمل الدبلوماسي، والمتعلق بالحرب الباردة لأن وجود قطبين رئيسيين في العالم في ذلك الوقت، جعل الأمور ملائمة ومواتية للتحرك الدبلوماسي، ويعد المؤتمر الآفروآسياوي الذي انعقد في 17 أفريل 1955 بباندونغ (أندونيسيا) كان بمثابة نقطة انطلاق وتحول رئيسية في كفاح الشعب الجزائري والدور السياسي لجبهة التحرير، خاصة وأنه اختتم بإصدار بيان تضامني مع الثورة الجزائرية في حربها الدائرة ضد الإستعمار الفرنسي.
ويرى بعض الملاحظين والمحللين السياسيين، أن التنظيم العسكري والسياسي وحتى الدبلوماسي الذي ميز جبهة التحرير وجيش التحرير بدأ بعد انعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956.
القادة السياسيون يوجهون المقاومة ويوصلون صوتها للخارج

وتمكنت المقاومة بفضل توجيهها من قبل القادة السياسيين والدبلوماسيين المحنكين في الداخل والخارج، في ظرف قصير، بالرغم من عملها الشاق والعسير أن تحقق رواجا وانتشارا كبيرا عبر كل الوسائل المتاحة لها من كتب، وشعر ومسرح، وسينما، وكذا النشرات التي أصبحت متواجدة عبر أنحاء العالم، ومنها من ترجمت إلى عدة لغات لإقناع الرأي العام الداخلي والخارجي بشرعية الثورة الجزائرية وعدالتها. وكان ذلك، إن دل على شيء، فإنما كان يدل على إرادة قادة الجبهة في ضرورة الرد الفوري على أجهزة الإعلام الغربية المنحازة لوجهة النظر الفرنسي، كما كانت موجهة للشعب الفرنسي كذلك، وبفضل تلك النشاطات الثقافية والإعلامية والتحسيسية تمكنت قيادة الجبهة والجيش أن تقدم للرأي العام الدولي صورة متكاملة لكفاح الشعب الجزائري الشرعي وبسط الجرائم البشعة للاستعمار وحق الشعب في تقرير مصيره بنفسه، كما استطاعت الدبلوماسية الجزائرية آنذاك أن تدق أبواب أوروبا والأمم المتحدة بنيويورك، وأن تنتزع وتكسب حماس الشعوب وقناعتها بعدالة القضية الجزائرية.
الدبلوماسية الجزائرية تصحح ما روجته الإدراة الفرنسية

ولعل أول انتصار دبلوماسي على المستوى الدولي بالنسبة لقيادي جبهة التحرير الوطني، كان إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجلسة العاشرة للأمم المتحدة، وكان ذلك في 20 سبتمبر سنة 1957 وتزامن هذا الحادث مع إضراب التجار في الجزائر، كما مكّنت هذه الواقعة بإسماع صوت الجزائر وإخراج المسألة من أيادي الفرنسيين الذين كانوا دائما يتخوفون من حدوث هذا النوع من المسائل الحرجة وإبرازها إلى العالم بحيث كانوا يروجون إلى حلفائهم بأن القضية الجزائرية شأن داخلي فرنسي. وكان للدبلوماسية الجزائرية، تأثير كبير في تحول المواقف التي كانت الإدارة الفرنسية تروج لها في شأن الذين أسمتهم “بالفلاقة” (الخارجين عن القانون)، حيث عمدت في الأخير إلى إجراء أول لقاء سري مع محمد يزيد الذي كان يمثل الجبهة في الأمم المتحدة بنيويورك، وذلك في 21 جوان من سنة 1956. وقد ظهرت قوة الدبلوماسية الجزائرية إبان الحرب التحريرية في أول تحرك للهيئة الأممية بشأن القضية الجزائرية، حيث أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة لائحة في 15 أكتوبر 1957 تدعو فيها إلى إيجاد حل سلمي وديمقراطي للقضية الجزائرية التي صارت تشكل صداعا للعالم. وهو الأمر الذي دفع قادة الجبهة إلى التركيز على الخارج وربح معركة أخرى، معركة مواجهة الرأي العام الدولي.
1957 سنة الجزائر في الأمم المتحدة

وهكذا كانت سنة 1957 هي سنة الجزائر في الأمم المتحدة، فقد عرضت مرتين قضية الجزائر على الأمم المتحدة في الدورتين الحادية عشر والثانية عشر، واستمر طرح القضية بعد ذلك في كل دورة من دورات هيئة الأمم المتحدة، وذلك نتيجة الكفاح السياسي والدبلوماسي الذي لعب، إن لم نقل الدور الأساسي، بل الدور الأهم في الكفاح لخدمة القضية الجزائرية وإظهار حقيقتها. وكان عدد أنصار الجزائر المكافحة يتزايد في كل مرة، في حين كان موقف فرنسا يتزايد تقهقرا وحرجا حتى أمام حلفائها، الأمر الذي أرغم حلفاء فرنسا في النهاية إلى التخلي عنها، وكان للعزلة الدولية التي منيت بها فرنسا دورها في التأثير على السياسة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة لإعادة النظر في مواقفها.
الدبلوماسية الجزائرية تستخلص الشرعية الدولية

أرست القضية الجزائرية بظلالها على تطوّر الحياة الدولية، لصالح مبدأ تقرير مصير الشعوب التي تئن تحت وطأة الاحتلال من أجل افتكاك الحرية والاستقلال، أو ما كان يعرف بمرحلة تصفية الاستعمار، فقد كُتب على الحركات الوطنية، خاصة جبهة التحرير أن تعدّل مسار التاريخ الإنساني لصالح الشعوب في الحرية والمساواة، وهو المسار الذي حاولت الدول الاستعمارية أن تنحرف به، ومن خلال تطور الحركة الوطنية من مسألة أهلية تخاطب بها السلطة الاستعمارية الجزائريين المسلمين، إلى قضية جزائرية تُواجه بها نفس السلطة أمام الأمم المتحدة، نجد أن الخيط الرفيع والبارز في هذا المسار هو سعي الحركة، ثم الثورة التحريرية إلى استخلاص الشرعية الدولية التي أضحت أحد الاعتبارات الضرورية التي يقوم عليها المجتمع الدولي. كما أن الدبلوماسية الجزائرية، لم تتوجه إلى توسيع نطاق مجالات التحرر والسيادة والاستقلال فحسب، بل أيضا إلى انهيار منظومة الاستعمار ذاته من داخله، وإعادة النظر في التاريخ السياسي للغرب الاستعماري.
لمياء بن دعاس