-
اللائحة تُحدد الأطراف وتسقط سردية الخلاف الثنائي
مع صدور اللائحة الأممية الأخيرة حول الصحراء الغربية، تتقدم القضية إلى منعطف حاسم أعاد ترتيب الأوراق داخل مجلس الأمن، وأحدث تحولا واضحا في ميزان الخطاب القانوني والدبلوماسي لصالح مقاربة تقرير المصير التي دافعت عنها الجزائر منذ عقود.
فبعد سنوات من محاولات المغرب فرض “الحكم الذاتي” كإطار وحيد ونهائي، جاءت اللائحة لتعيد تثبيت المرجعية الأممية الأصلية للقضية، وتفصل لأول مرة بين مشروع الرباط ورأي الشعب الصحراوي، واضعة النزاع في سياقه الحقيقي كقضية تصفية استعمار. وفي خلفية هذا التحول، يبرز الدور الجزائري الذي ظل ثابتا في الدفاع عن الشرعية الدولية، مستندا إلى مبادئ واضحة وقراءة قانونية دقيقة أظهرت في نهاية المطاف قدرتها على التأثير في صياغة القرار ومسار المناقشات داخل مجلس الأمن.
تفكيك الارتباط بين الحكم الذاتي وتقرير المصير
وفي قلب هذا التحوّل الذي حملته اللائحة الأممية الأخيرة، برز البند الأهم: تفكيك الارتباط الذي حاول المغرب ترسيخه لسنوات بين مشروع “الحكم الذاتي” ومبدأ تقرير المصير. فمنذ مطلع الألفية، سعى المغرب إلى تقديم الحكم الذاتي على أنه الصيغة الوحيدة الممكنة، وأن ممارسة الشعب الصحراوي لحقه في تقرير مصيره يجب أن تتم ـ حصريا ـ داخل حدود هذا المقترح. غير أن مجلس الأمن، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، عاد لتصويب هذا المسار، مفصلا بشكل واضح بين المقترح المغربي وبين الحق الأصلي للشعب الصحراوي كما نصت عليه الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة. لقد جاء النص الأممي بصياغة تُخرج تقرير المصير من “الاحتواء القانوني” الذي حاول المغرب هندسته، وتعيده إلى وضعه الطبيعي كحق مستقل لا يخضع لشروط ولا يُمارَس داخل إطار أحادي. هذا التفكيك أعاد الاعتبار لقرار 1415 الذي يحدد بدقة مفهوم تصفية الاستعمار، ويفصل بين إرادة الشعوب وبين الحلول التي تطرحها الدول القائمة على النزاع، ليصبح تقرير المصير حقا قائما بذاته، غير مرتبط بأي حل جاهز أو مقترح مسبق. وتقرأ الدبلوماسية الجزائرية هذا التغيير بوصفه انتصارا لمبدأ ظل ثابتا في سياستها الخارجية: أن الحل لا يمكن أن يقوم إلا على احترام إرادة الشعب الصحراوي، وأن أي محاولة لتوجيه هذا الحق أو وضعه داخل “قوالب سياسية” جاهزة، تُفرغه من معناه وتخرجه من إطار القانون الدولي. ولذلك ترى الجزائر أن اللائحة الأخيرة لم تنجح فقط في إسقاط الربط بين “الحكم الذاتي” و”تقرير المصير”، بل أعادت أيضًا الاعتبار للمسار الأممي بعد سنوات من الغموض والتأويلات الانتقائية. ومن الواضح أن هذا التفكيك لم يكن مجرّد تعديل تقني في نص دبلوماسي، بل خطوة تعكس تحوّلًا أعمق داخل مجلس الأمن في كيفية مقاربة النزاع، إذ أعاد القرار الاعتراف بالطبيعة الاستعمارية للقضية، وأثبت أن أي حل يُطرح خارج منطق تقرير المصير لا يمكن اعتباره إطارًا نهائيًا ولا وحيدًا. وهذا ما يجعل الجزائر ترى أن اللائحة الأممية الأخيرة ليست مجرد وثيقة سياسية، بل محطة أساسية في إعادة ضبط اتجاه البوصلة القانونية للنزاع نحو مساره الصحيح.
تحديد طرفي النزاع.. سقوط سردية “الخلاف الجزائري–المغربي”
وإذا كان تفكيك الارتباط بين الحكم الذاتي وتقرير المصير قد أعاد الملف إلى مرجعيته القانونية، فإن التطور الثاني الذي حملته اللائحة الأممية جاء ليحسم جانبًا آخر من المناورة الدبلوماسية المغربية، والمتمثل في محاولة تحويل النزاع من مسار “الصحراء الغربية” إلى مسار “الخلاف مع الجزائر”. فمنذ سنوات، عملت الرباط على تسويق سردية جديدة مفادها أن الجزائر هي الطرف المباشر، وأن البوليساريو مجرد “فاعل ثانوي”، في محاولة لإقصاء البعد التحرري للقضية وإعادة صياغتها كخلاف حدودي أو سياسي بين دولتين في المنطقة. غير أن اللائحة الأخيرة لمجلس الأمن جاءت واضحة في مضمونها، إذ أعادت تثبيت طرفي النزاع الحقيقيين: المغرب وجبهة البوليساريو، وأسقطت بشكل ضمني كل الادعاءات التي حاولت إخفاء الطابع الاستعماري للملف. هذا التحديد عنصر جوهري يعيد تشكيل توازنات العملية التفاوضية، لأنه يعيد النزاع إلى بنيته الأصلية: شعب يسعى إلى ممارسة حقه في تقرير المصير، ودولة تمارس سيطرة بحكم الأمر الواقع على الإقليم. وقد رأت الجزائر في هذا التحديد استعادة للمسار الصحيح، لأن الاعتراف بالأطراف الحقيقية هو شرط أولي لنجاح أي عملية سياسية. فإقصاء البوليساريو كان يعني، موضوعيًا، إلغاء الطرف الذي يعترف به المجتمع الدولي ممثلًا للشعب الصحراوي، وبالتالي تحويل النزاع إلى مجرد “توتر ثنائي” لا علاقة له بحقوق الشعوب ولا بقرارات الأمم المتحدة. أما اليوم، فإن اللائحة قد وضعت حدًا لهذا الخلط، وأكدت أن الجزائر ليست طرفًا في النزاع، بل طرفًا داعمًا لمسار تصفية الاستعمار. وتكمن أهمية هذا الحسم في كونه يسحب من المغرب أحد أهم أوراقه الدعائية، ويعيده إلى طاولة المفاوضات وفق الإطار الذي حدده القانون الدولي وليس وفق الرواية التي حاول فرضها في السنوات الأخيرة. كما أنه يضع الأمم المتحدة أمام مسؤولية مباشرة: إذا كانت الأطراف محددة بوضوح، فإن أي مفاوضات مستقبلية يجب أن تُبنى على هذا الاعتراف، بعيدًا عن محاولات الالتفاف أو إعادة هندسة طبيعة الصراع. وهكذا، يصبح هذا الحسم الأممي عنصرًا تكميليًا للمكسب الأول، لأنه يعيد بناء المشهد التفاوضي على أسس سليمة، ويعطي للجزائر مساحة أكبر للدفاع عن المرجعية القانونية دون الدخول في سجالات جانبية حول “طبيعة الأطراف”. وفي المحصلة، فإن اللائحة الأخيرة أسقطت واحدة من أكثر السرديات التي روجتها الدبلوماسية المغربية، وفتحت الباب أمام مسار تفاوضي أكثر وضوحًا وشفافية.
المينورسو.. فشل محاولة تفكيك آخر آليات الاستفتاء الأممية
وبالقدر نفسه من الأهمية، جاءت اللائحة الأممية لتضع حدًا لمسعى آخر ظل المغرب يعمل عليه بإصرار خلال السنوات الأخيرة، ويتمثل في إضعاف أو إنهاء الدور المحوري لبعثة المينورسو، باعتبارها آخر آلية أممية متبقية تُجسد عمليًا مبدأ الاستفتاء وتراقب وقف إطلاق النار. فمنذ سنوات، حاولت الرباط الدفع نحو تغيير جوهري في عهدة البعثة، أو تقليص مهامها، أو حتى الدفع نحو تفكيكها بالكامل، في محاولة لإفراغ مسار تقرير المصير من أي أدوات مؤسساتية يمكن أن تبقيه حيًا. غير أن اللائحة الأخيرة جاءت لتعيد الأمور إلى نصابها، إذ حافظت على وجود المينورسو ودورها الأساسي كما هو محدد في قرارات الأمم المتحدة، دون أي تعديل جوهري قد يمس طبيعة مهمتها الأصلية المرتبطة بتنظيم الاستفتاء ومراقبة الوضع الميداني. وهذه النقطة، في نظر الجزائر، ضمانة سياسية وقانونية بأن المجتمع الدولي لا يزال يعترف بالطابع الاستعماري للنزاع، وبأن مسار تقرير المصير لا يزال قائمًا ومحميا ضمن آليات المنظمة الأممية. وتكتسب هذه الخطوة أبعادًا إضافية في السياق الحالي، إذ إن الحفاظ على المينورسو يعني عمليًا إسقاط ورقة من أهم الأوراق التي كان يعوّل عليها المغرب لإعادة تشكيل الملف. فوجود البعثة بحد ذاته يشكل شاهدًا ماديًا على أن الإقليم غير متمتع بالسيادة، وأن النزاع ما زال يخضع لمسطرة تصفية الاستعمار، وأن الحل النهائي لا يمكن أن يُفرض من طرف واحد. لذلك، فإن فشل محاولة المغرب اختراق عهدة المينورسو أو توجيهها يمثل أحد أبرز المكاسب التي تسجّلها الجزائر لصالح مقاربة القانون الدولي. كما أن استمرار البعثة في أداء مهمتها يعيد إحياء النقاش حول الحاجة إلى تعزيز آليات مراقبة حقوق الإنسان وإعادة تنشيط المسار السياسي وفق المرجعيات الأصلية. وهو ما يمنح الجزائر ورقة قوة إضافية في الدفاع عن إطار الأمم المتحدة باعتباره الضامن الوحيد لحماية حقوق الشعب الصحراوي. وبذلك، تتحول المينورسو من مجرد بعثة مراقبة إلى عنصر مركزي في معادلة التوازنات الإقليمية، مؤكدة أن أي سيناريو يتجاوز مبدأ الاستفتاء أو يقفز فوق حق تقرير المصير يبقى خارج الشرعية الدولية.
التحوّل الأمريكي.. من تمسّك بالموقف الوطني إلى تموضع كوسيط دولي
ومع الحفاظ على المينورسو في صيغتها الأصلية، برز عنصر مفصلي آخر ساهم في تعزيز هذا التحول داخل مجلس الأمن، ويتمثل في التبدل اللافت في الخطاب الأميركي تجاه القضية الصحراوية. فبعد سنوات من تمسك واشنطن بمقاربات سياسية تتقاطع في كثير من الأحيان مع الطرح المغربي، جاءت تصريحات المستشار الأميركي مسعد بولس لتفتح صفحة جديدة، ليس فقط في مضمونها، بل في دلالتها السياسية العميقة. فقد أكد بولس بوضوح أن الحكم الذاتي لم يعد الإطار الوحيد للحل، وأن البدائل الأخرى – بما فيها تلك التي يطرحها الصحراويون – باتت مطروحة على الطاولة، وهو ما يشكل تراجعًا ضمنيًا عن الرؤية التي حاول المغرب تثبيتها داخل المنظومة الغربية. ويمثل هذا التصريح نقطة تحول حقيقية، لأنه يعكس انتقال الولايات المتحدة من موقع “المتبني” لموقف محدد إلى موقع “الوسيط” الذي ينظر إلى النزاع من زاوية الشرعية الدولية. وهذا التمييز بين الموقف الوطني الأميركي ودور الوساطة ليس خطوة بروتوكولية، بل يعكس مقاربة جديدة تتماشى مع عقيدة الأمم المتحدة في معالجة قضايا تصفية الاستعمار. وقد جاء هذا التحول في لحظة حساسة، ما جعل أثره مضاعفًا في صياغة اللائحة الأممية، حيث ظهرت لغة أكثر توازنًا وابتعادًا عن الطرح الأحادي. وتقرأ الجزائر هذا التحول باعتباره إحدى أهم الإشارات السياسية التي تؤكد أن المجتمع الدولي بدأ يعيد النظر في بعض المسلمات التي رافقت الملف خلال السنوات الماضية. فعبارات المستشار الأميركي بشأن “التصويت” و“استشارة الشعب الصحراوي” أعادت إلى الواجهة المبدأ الأساسي للنزاع: حق تقرير المصير، بما هو آلية ديمقراطية تستند إليها الشرعية الدولية. ويمثل هذا التذكير – القادم من واشنطن – تقويضًا واضحًا للطرح المغربي الذي حاول تصوير مسار الاستفتاء كخيار منتهي الصلاحية. ولعل الأكثر أهمية هو أن هذا التحول الأمريكي ينعكس مباشرة على موازين الحوار داخل مجلس الأمن، إذ يمنح للخيارات البديلة مساحة أكبر للنقاش، ويحدّ من قدرة المغرب على تقديم مقترحه كحل نهائي وحصري. كما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الدبلوماسية المتعددة الأطراف، يكون فيها دور الوسيط الأميركي أكثر اقترابًا من روح القرارات الأممية، وأبعد عن الاصطفافات الضيقة. وفي هذا السياق، ترى الجزائر أن هذه اللحظة تشكل فرصة لإعادة التأكيد على المبادئ الجوهرية التي تأسست عليها القضية، وعلى رأسها أن الحل لا يمكن أن يكون إلا نتيجة تفاوض حقيقي بين المغرب وجبهة البوليساريو، كما نصت على ذلك اللائحة الأممية الأخيرة.
امتناع الجزائر عن التصويت.. قرار تقني يرسّخ مكسبًا سياسيًا
ومع هذا التحول في توازنات الموقفين الأممي والأمريكي، برز عنصر آخر أثار اهتمام المتابعين، ويتعلق بامتناع الجزائر عن التصويت على اللائحة الأخيرة في مجلس الأمن. ورغم محاولات بعض الأطراف تقديم هذا الامتناع وكأنه تحفظ سياسي، إلا أن السياق الكامل للتصويت يكشف أن الأمر كان قرارًا تقنيًا بحتًا، مرتبطًا بعبارة واحدة وردت في ديباجة النص تتحدث عن “السيادة المغربية”. فقد طالبت الجزائر، قبل يوم من التصويت، بحذف هذه العبارة حتى تتمكن من التصويت لصالح القرار، باعتبارها إشارة لا تنسجم مع وضع الإقليم كمنطقة غير متمتعة بالسيادة وفق القانون الدولي. وحين لم يتم تعديل العبارة قبل موعد التصويت، فضّلت الجزائر الامتناع، حفاظًا على انسجام موقفها القانوني وضمانًا لعدم ترك أي ثغرة قد تُستغل لاحقًا لتأويل قرار أممي بطريقة تتناقض مع مسار تصفية الاستعمار. غير أن المفارقة اللافتة جاءت بعد التصويت، إذ تم حذف العبارة فعليًا من النص النهائي، ما جعل الامتناع الجزائري يتحول من خطوة تقنية مؤقتة إلى مؤشر على جدية الجزائر في حماية الإطار القانوني للقضية، وعلى قدرتها على التأثير في الصياغة النهائية للوثيقة رغم عدم التصويت. وتبرز هذه الواقعة قيمة الموقف الجزائري الذي يصر على الدقة والمطابقة التامة للشرعية الدولية، إذ إن الموافقة على نص يتضمّن إشارة تُفهم ضمنيًا كاعتراف بسيادة المغرب على الإقليم كانت ستفتح بابًا واسعًا أمام التأويلات المغلوطة. وبذلك، يكون الامتناع قد أدى وظيفته السياسية والقانونية، محافظًا على التناسق بين موقف الجزائر ومبادئ الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه مسجّلًا نجاحًا دبلوماسيًا يتمثل في حذف الإشكال من النص النهائي.