من الأرياف إلى أفخم الفيلات بالمدن

الصناعة الفخارية.. إرث تاريخي يتربع على عرش الديكور

الصناعة الفخارية.. إرث تاريخي يتربع على عرش الديكور

تعد الصناعة الفخارية في الجزائر من أقدم الصناعات التقليدية التراثية، التي توارثتها الأجيال عبر السنين، حيث تعد أقدم حرفة امتهنها الجزائريون منذ تواجدهم بالمنطقة، لتصبح اليوم تراثا شعبيا يعبر عن الأصالة والتاريخ المرتبط بالحضارة.

وكان من ساهم في التمسك بهذا التقليد الأصيل عن الأجداد، الطبيعة الجغرافية للمنطقة التي تقع فيها الجزائر، فبين البحر الأبيض المتوسط وبين المناطق الداخلية الهضابية. وهو ما شكل بلا شك وفرة كبيرة في المادة الأولية لهذه الصناعة، ألا وهي الطينة الحمراء الطوبية اللون.

 

إرث حضاري توارثته الأجيال

لا يمكن أن يغيب عن أعيننا ونحن قادمون من المناطق الريفية المتواجدة ببلادنا، أن نغفل مشاهدة تلك الطاولات الطويلة العريضة، التي زينتها الأواني الفخارية الموزعة عليها، إنها لشباب أرادوا إلا امتهان تجارتها تعبيرا منهم أن حضارة الأجيال السالفة لا زالت قائمة، ولن تمحوها الأواني الزجاجية البراقة، فإن هي تطورت، فحتى الأواني الفخارية بدورها تطورت وأضحت اليوم، مزيجا من الأشكال والألوان الباهية، كثيرا ما تشبه السيراميك، جعلها سكان الأرياف سفيرا بدون تأشيرة. والشاب حميد (29 سنة) هو من بين الشباب الذين اختاروا التجارة في الأواني الفخارية، وهو يملك محلا لبيعها بضواحي الحراش، حدثنا حميد قائلا: أن هذه التجارة قبل أن تكون مكسب رزق وفير له، هي موروث حضاري عن الأب الذي ورثها بدوره عن والده وهكذا دواليك، قال حميد إن جده الأول الذي كان يقيم بإحدى المناطق الريفية بالبويرة، لم يكن يبيعها فقط بل كان يصنعها برفقة زوجته، حيث كانا يملكان ورشة خلف منزلهما، واستطاعا تطوير صناعتهما إلى أن أصبحت ورشتهما أكثر آلية، بحيث لم تعد صناعتها تقتصر على استخدام اليدين فقط، بل أصبحا يلجآن إلى استخدام الآلات كالدولاب الذي يحسن تدريجيا وفي وقت قصير جدا الشكل النهائي للأواني فيجعل منها أكثر دقة واحترافية، وهذا ما سمح بتطوير أشكال هذه الأواني، وحتى ألوانها، لتجلب آلاف الزبائن، وبالتالي كانت مصدر عيشهما، ويضيف حميد قائلا: أنه وبالرغم من التطور الذي عرفته صناعة الفخار في الأشكال والألوان، باستخدام الآلات، إلا أن كثيرا من الناس، يبحثون عن تلك الأواني المصنوعة يدويا.

 

خالتي عائشة.. مثال للتوارث الحضاري والتمسك بالتقاليد

 

قبل لقائنا بخالتي عائشة (63 سنة) كنا نظن أن كل من يرحل إلى الإقامة في المدينة يتخلى بسهولة عن مزاولة حرفته في صناعة الأواني الفخارية، فيكتفي فقط ببيعها إن استطاع ذلك، بحكم الضيق في المسكن وكذا مواجهة ظروف صعبة تحول دون ذلك، غير أن لقائنا بها غير من نظرتنا تماما، لأنها أخبرتنا أنها ومنذ ما يقارب الثلاثين سنة وهي تقيم بالعاصمة برفقة زوجها، ورغم كل الظروف التي واجهتها إلا أنها استطاعت نقل صناعتها معها، وهي اليوم تملك ورشة صغيرة بجوار منزلها الذي يقع بإحدى الأحياء بالرويبة. خالتي عائشة أخبرتنا أنها تزوجت صغيرة ولم ترزق بأطفال في حياتها، ما جعلها تتمسك أكثر بحرفتها، وتمضي جل وقتها في تلك الورشة التي جعلتها بئرا لكل أسرارها ومسرحا لكل مكبوتاتها، حيث أنها تعتبرها الأبناء الذين لم ترزق بهم، فتتفنن في صناعة الأواني الفخارية بطرق تقليدية، لأن ورشتها لا تحوي سوى على ذلك الدولاب الذي تدور عليه الأواني لبلورة شكلها النهائي. بالنسبة لخالتي عائشة، فإن مزاولة الصناعة الفخارية يجعلها تحس وكأنها لا زالت تعايش الزمن الماضي، فبالرغم من مرور الزمن، إلا أنها بمجرد دخولها إلى ورشتها تتذكر جدتها التي علمتها مبادئ مهنتها عندما كانت في سن الطفولة، في ذلك الوقت كانت تصنع الأواني لتلعب بها برفقة صديقاتها في الدشرة، ولكنها استطاعت تسجيل كل مراحل صناعتها في ذاكرتها، وهي الآن تجسدها، وتريد أن تكسب أكبر عدد من الزبائن من كل مكان، ليس من أجل كسب المال، ولكن من أجل ترسيخ هذا التقليد الحضاري، الذي يخاف عليه من الاندثار في ظل التطورات التكنولوجية الحاصلة وعزوف الشباب عن كل ما هو تقليدي.

 

منازل مكسوة بأبهى حلة تقليدية أصيلة

وما ساهم بقسط معتبر في ترسيخ هذا الإرث الحضاري الكبير، هو الإقبال المنقطع النظير من قبل الجزائريين على شراء الأواني الفخارية، فمنهم من يحبذها للزينة ومنهم من يريدها لاستخدامها في المنزل، تقول السيدة سميرة (51 سنة): “لا يمكنني وأنا قادمة من الريف أن لا أطلب من زوجي التوقف عند هؤلاء الباعة الشباب الذين يعرضون أواني لافتة وباهية، وعندما أقف أمامها تجذبني فلا أستطيع أن أشتري منها شيئا، بحكم أنها أعجبتني جميعها، وكم هو صعب الاختيار من بينها، لدي العديد منها في منزلي، ولكني كلما شاهدت المزيد منها تمنيت شرائها، أستطيع استخدامها للزينة وحتى في المناسبات، فالأطباق الفخارية تبدو أبهى حلة من الزجاجية، وأنا شخصيا أحب كثيرا استخدامها في الحفلات والأعراس”. أما السيدة كريمة (49سنة) فتقول أنها لا يمكنها أن تطهو شوربة رمضان في القدر الألمنيومي، حيث أنها سنويا ومع اقتراب حلول الشهر الفضيل، تتوجه إلى إحدى المحلات المختصة في بيع هذه الأواني، وتشتري قدرا جديدا، وتفضله دائما أن يكون مصنوعا يدويا، وتضيف السيدة سميرة قائلة: إن طعم الشوربة المطهوة في القدر الفخاري لا يمكننا مقارنته بالقدر العادي، لأنه يعطيها رائحة زكية تفتح شهية كل من يشمها. ومن جهة أخرى، قالت السيدة سميرة، إنها تملك عدة طواقم من هذه الأواني، وتستعملها في عدة مناسبات وأخرى للزينة، فاليوم أصبحت ألوانها متنوعة، وجعلتها تبدو أكثر جمالا لتضيف حلة أبهى للمنزل. صمدت الصناعة الفخارية في الجزائر عبر الزمن، واستطاعت التعايش مع مختلف الحضارات، بل وأكثر من ذلك، حيث اعتبرها العلماء البيولوجيون والمؤرخون مقياسا لدراسة حقبة من الزمن، ومع التطور الحاصل في الآلات وحتى الأذواق فقد ظهرت عدة أنواع من الفخار، كالسيراميك وفخار بوكوراك الرمادي أو الأسود الجميل الصنع وسطحه لامع أملس، ورموز ودلالات سواء صنعتها الحضارات السابقة أو مخيلة الإنسان المبدع، كما استعملت الأكاسيد المعدنية لطلي الخزف بالألوان الجميلة، منها الأحمر، الأسود، الأصفر وغيرها. وبالرغم من الشهرة العالمية التي اكتسبها الفخار عبر العصور ومختلف الحقبات التاريخية، لكنه يظل في بلادنا لا يرقى إلى المستوى المطلوب، كونه ليس شيئا عاديا فحسب ولكنه إرث حضاري وموروث شعبي يحمل كل معاني الثقافة الأصيلة.

ق.م