عِبَادَ اللهِ: العَرَبِيَّةُ لَيْسَتْ لُغَةً جَامِدَةً، بَلْ لُغَةٌ حَيَّةٌ نَابِضَةٌ، حَمَلَتْ لِوَاءَ العِلْمِ، وَدَوَّنَتْ مَعَالِمَ الحَضَارَةِ، وَكَانَتْ لِقُرُونٍ طَوِيلَةٍ لُغَةَ الطِّبِّ وَالفَلَكِ وَالهَنْدَسَةِ وَالفَلْسَفَةِ، وَتَعَلَّمَتْ بِهَا أُمَمٌ كَثِيرَةٌ لَا تَنْطِقُ بِهَا اليَوْمَ. وَلَمْ يَقْتَصِرِ الإِقْرَارُ بِفَضْلِهَا عَلَى أَهْلِهَا، بَلْ شَهِدَ لَهَا المُنْصِفُونَ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى غِنَاهَا، وَعُمْقِهَا، وَدِقَّةِ تَعْبِيرِهَا، وَقُدْرَتِهَا الفَرِيدَةِ عَلَى حَمْلِ المَعَانِي الدَّقِيقَةِ. وَهٰذَا اعْتِرَافٌ صَادِرٌ مِنَ الخُصُومِ قَبْلَ الأَحْبَابِ؛ فَقد قَالَ الفَرَنْسِيُّ وِلْيَم مِرْسِيَه: ” العِبَارَةُ العَرَبِيَّةُ كَالعُودِ، إِذَا نُقِرَ عَلَى أَحَدِ أَوْتَارِهِ رَنَّتْ سَائِرُ الأَوْتَارِ وَخَفَقَتْ”، وَقَالَ المُــسْــتَـشْـرِقُ الأَلْمَانِيُّ كَارْل بْرُوكِلْمَان: “بَلَغَتِ العَرَبِيَّةُ بِفَضْلِ القُرْآنِ مِنَ السَّعَةِ وَالاتِّسَاعِ مَا لَا تَكَادُ تَبْلُغُهُ لُغَةٌ أُخْرَى مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ”. وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا ابْتُلِيَتْ بِهِ الأُمَّةُ فِي هٰذَا الزَّمَانِ: الِاسْتِخْفَافَ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ، وَالتَّسَاهُلَ فِي اللَّحْنِ، خُصُوصًا فِي القُرْآنِ. وَإِنَّ حَرَكَةً وَاحِدَةً قَدْ تَقْلِبُ المَعْنَى رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، وَقَدْ تُفْسِدُ المَقْصُودَ، وَقَدْ تُغَيِّرُ الحُكْمَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الأَنْبَارِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَدِمَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَطَلَبَ مَنْ يُقْرِئُهُ القُرْآنَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ: “أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ” بِكَسر اللَّامِ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: أَوَقَدْ بَرِئَ اللهُ مِنْ رَسُولِهِ؟! إِنْ يَكُنِ اللهُ بَرِئَ مِنْ رَسُولِهِ فَأَنَا أَبْرَأُ مِنْهُ. فَبَلَغَ ذٰلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَدَعَاهُ وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَنَّ القِرَاءَةَ: “وَرَسُولُهُ” التوبة: 3 بِالرَّفْعِ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: الآنَ بَرِئْتُ مِمَّنْ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُمْ. فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَلَّا يُقْرِئَ القُرْآنَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِلُغَةِ العَرَبِ. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ، كَيْفَ تَحْفَظُ الضَّمَّةُ عَقِيدَةً، وَتَحْفَظُ الكَسْرَةُ دِينًا، وَيَحفظ الإِعْرَابُ كِتَابَ اللهِ. إِنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ وَسِيلَةِ تَوَاصُلٍ، بَلْ هِيَ رَمْزُ العَقِيدَةِ، وَعُنْوَانُ الهُوِيَّةِ، وَرِبَاطُ الأُمَّةِ. وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ فِي التَّعْلِيمِ، ضَعُفَتِ العُقُولُ، وَكُلَّمَا غَابَتْ عَنِ الإِعْلَامِ، غَابَتِ القِيَمُ، وَكُلَّمَا أُبْعِدَتْ عَنِ البُيُوتِ، نَشَأَ جِيلٌ غَرِيبٌ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِ. تَعَلَّمُوا اللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةَ، نَعَمْ، فَهِيَ مَطْلُوبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالعَمَلِ وَالتَّوَاصُلِ، وَلَكِنْ لَا تَجْعَلُوهَا سَيِّدَةَ بُيُوتِكُمْ، وَلَا لُغَةَ تَفْكِيرِ أَبْنَائِكُمْ، وَلَا بَدِيلًا عَنْ لِسَانِ القُرْآنِ. فَاللُّغَاتُ الأَجْنَبِيَّةُ أَدَوَاتٌ، وَالعَرَبِيَّةُ أَصْلٌ، وَالأَدَاةُ لَا تَحِلُّ مَحَلَّ الأَصْلِ. أيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إِنَّ تَرْبِيَةَ الأَبْنَاءِ عَلَى العَرَبِيَّةِ قِرَاءَةً وَكِتَابَةً وَتَحَدُّثًا أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَرَبْطَهُمْ بِالقُرْآنِ ضَرُورَةٌ كُبْرَى، فَهُوَ المَدْرَسَةُ الأُولَى وَالأَعْظَمُ لِلِّسَانِ العَرَبِيِّ، وَمِنْهُ تُسْتَقَى سَلَامَتُهُ وَقُوَّتُهُ. اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مِنَ العَرَبِيَّةِ مَا نَفْهَمُ بِهِ كِتَابَكَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا أَلْسِنَةً صَادِقَةً، وَبَيَانًا مُسْتَقِيمًا، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَعْلِ رَايَةَ القُرْآنِ، وَاحْفَظْ لِهٰذِهِ الأُمَّةِ لِسَانَهَا وَهُوِيَّتَهَا…
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر