سجلتها ثورة التحرير وما سبقها من مقاومات شعبية

المستدمر الفرنسي.. جرائم لا تموت بالتقادم__ ♦ قمع.. تنكيل وحصيلة شهداء بالملايين

المستدمر الفرنسي.. جرائم لا تموت بالتقادم__  ♦ قمع.. تنكيل وحصيلة شهداء بالملايين

مارس الاستعمار الفرنسي خلال فترة احتلاله للجزائر، مجازر شنيعة وأعمال قمعية فضيعة راح ضحيتها ملايين الجزائريين الذين رفعوا تحدي تحرير البلاد وإنهاء استعمار المحتل وإخراجه.

وعرفت ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962) وما سبقها من مقاومات شعبية محطات بارزة صنفها المؤرخون ضمن أحداث مفصلية لم تخلوا من جرائم العدو الذي مارس أبشع صور التعذيب والتنكيل في حق الشعب الجزائري المقاوم.

 

حصيلة بالملايين

وقام الاستعمار الفرنسي خلال احتلاله الجزائر بأبشع أنواع التنكيل والقتل ضد الجزائريين، كانت حصيلتها ما يزيد عن 10 ملايين شهيد طيلة قرن وربع قرن، وفق الأرقام التي كشفت عنها الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، في تقرير لها عام 2017.

وخلال مواجهته ثورات شعبية منذ دخوله البلاد حتى مغادرتها أباد الاستعمار الفرنسي قرى بأكملها فضلاً عن أساليب الصعق الكهربائي واستخدم الآبار المائية سجوناً وألقى المعتقلين من المروحيات، كما استخدم المدنيين رهائن ودروعاً بشرية في حربه ضد جيش التحرير الوطني، وفق مؤرخين.

 

مجازر 8 ماي 1945

ذكرى مجازر 8 ماي 1945 في الجزائر - بوابة الهدف الإخبارية

ولعل مجازر 8 ماي 1945 تعد الأشهر والأكبر التي ترتكبها فرنسا في يوم واحد، إذ خرج مئات الآلاف من الجزائريين في يوم 8 ماي 1945، للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ولمطالبة فرنسا بالوفاء بوعدها بمنحهم الاستقلال، لكن قوات الاستعمار استخدمت الرصاص الحي وقتلت 45 ألفاً من المتظاهرين العُزل، في جريمة ضد الإنسانية.

ويومها تجمع في سطيف حشد من ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف شخص للاحتفال بالنصر، بدعوة من الاتحاد الشعبي وحزب الشعب الجزائري المحظور لرئيسه مصالي الحاج. ولأول مرة، ظهر بجانب العلم الفرنسي، العلم الجزائري الأخضر والأبيض يتوسطه هلال ونجمة حمراوان. وبعد الهتاف لانتصار الحلفاء، بدأت تتعالى صيحات “تحيا الجزائر المستقلة”. وصدر أمر من نائب عمدة المدينة بإزالة اللافتات، لكن الكشاف المسلم الشاب بوزيد سعال رفض إنزال العلم الجزائري، فاندلعت الاشتباكات وأطلق شرطي النار وقتل الشاب البالغ من العمر 26 عاما. فسادت حالة من الذعر بين المتظاهرين وكانت بداية أعمال الشغب. وانقلب غضب المتظاهرين الجزائريين على المستوطنين الفرنسيين. وفي المساء توسعت التظاهرات إلى الريف ومدن أخرى، قالمة وخراطة وبونة (عنابة حاليا). واستمرت على مدى يومين. وتم إعلان الأحكام العرفية مع حظر للتجول ومنع لأي حركة تنقل على مسافة 150 كلم من سطيف وحتى الساحل. كما تم اعتقال قادة الحركة الوطنية. ونفذت القوات الفرنسية عمليات إعدام أعضاء من الكشافة ومدنيين لمجرد الاشتباه فيهم. قرى بأكملها (تضم 5 إلى 10 آلاف نسمة) تم قصفها بالطائرات وإحراقها للاشتباه في إيوائها دعاة الاستقلال، وقتل النساء والأطفال والشيوخ. وخلال 15 يومًا، تم تنفيذ 20 قصفا جويا ضد السكان، وتدمير 44 قرية، بينما تم إزالة مداشر (قرى معزولة في الجبال) بالكامل. ويجمع المؤرخون على أن صور المجازر الرهيبة التي عاشتها المنطقة خلال أحداث 8 ماي 1945 لا يمكن أن تنسى لأن الجريمة لا يمكن أن تموت بالتقادم. وفي عام 2005، اعترف السفير الفرنسي بالجزائر رسميا، بأن هذه المجازر كانت “مأساة لا تغتفر”. وبعد عشر سنوات، في عام 2015، شارك وزير الدولة الفرنسي للمحاربين القدامى جان مارك توديشيني في إحياء ذكرى المجازر في الجزائر، ووضع إكليلا من الزهور عند النصب التذكاري لبوزيد سعال أول قتيل في الثامن من ماي 1945.

 

تجارب نووية

التجارب النووية الفرنسية في الجزائر: آثارها تلوث العلاقات بين البلدين - BBC  News عربي

ومن بين المجازر التي قامت بها فرنسا الاستعمارية في الجزائر، التجارب النووية في الصحراء، حيث أجرت السلطات الاستعمارية الفرنسية 17 تجربة نووية تحت الصحراء الجزائرية وفوقها بين عامَي 1960 و1966.

وتسببت التجارب النووية بمقتل 42 ألف جزائري وإحداث عاهات مستدامة، بسبب الإشعاعات النووية التي لا تزال تلوث المكان حتى اليوم. ولا تزال السلطات الجزائرية تطالب نظيرتها الفرنسية بتسليمها خرائط دفن نفايات هذه التجارب لحماية السكان من إشعاعاتها لكن باريس تماطل في ذلك.

 

جريمة نهر السين

يوم ألقى فرنسيون بجزائريين في نهر السين

ويعد 17 أكتوبر 1961 يوما آخر للقمع العنيف الذي مارسته فرنسا ضد المتظاهرين الجزائريين الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والاستقلال بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث سقط ما يزيد عن 200 شهيد و2300 جريح.

ويشير بيان الشرطة الباريسية يوم 23 من الشهر ذاته إلى إخضاع 29 ألف جزائري مغترب للتفتيش، وتوقيف 600 آخرين، وطرد 200 إلى الجزائر. ويومها أصدر وزير الداخلية روجي فري -رفقة محافظ شرطة باريس موريس بابون- في الخامس من أكتوبر 1961 مرسوما عنصريا يحظر تجوال العمال الجزائريين بباريس وضواحيها. وجاء ذلك على خلفية “نجاح الثورة الجزائرية دبلوماسيا، وتوالي بروز الدائنين لها من الأوساط الفرنسية، وتمكنها من تنظيم العمال الجزائريين وتوجيههم وحصولها على الأموال، وتسريب الأسلحة إلى الجزائر”. غير أن مسؤولي الثورة في الخارج لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تلك الإجراءات، حيث اجتمعت اللجنة الفيدرالية لجبهة التحرير الوطني وأجمعت على حتمية مواجهة التعليمات العنصرية وكسرها. وقررت اللجنة خروج مظاهرات شعبية للمهاجرين خلال ليلتين متتاليتين بعد الساعة الثامنة مساء بكل هدوء ونظام في الطرق الرئيسية لباريس. وخرج يومها نحو 80 ألف مغترب جزائري في مظاهرات سلمية ضخمة للرد على تضييق السلطات الفرنسية، وللتعبير عن مساندتهم المطلقة لجبهة التحرير ومطالبها في الحرية والاستقلال، في حين ردت الشرطة الفرنسية من جهتها بالقمع الشديد والقتل والتعذيب والرمي من جسور نهر السين الشهير، حتى طفت الجثث على مساحة المكان. وتم إحصاء 200 شهيد و2300 جريح، منهم من نقل إلى التراب الوطني على متن باخرة خاصة لهذا الغرض، ليتم وضعهم في المحتشدات. واعترف الرئيس فرانسوا هولاند عام 2012 بالقمع الدموي للمتظاهرين، كما غرد إيمانويل ماكرون عام 2018 على تويتر بأن “17 أكتوبر 1961 كان يومًا من القمع العنيف، وأن الجمهورية الفرنسية مطالبة بأن تواجه الحقائق حول مجازر الجزائريين بباريس”. وبعد دخوله قصر الإليزيه، أدان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سنة 2021 “جرائم لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية” وذلك خلال مشاركته في مراسم إحياء الذكرى الستين لقتل متظاهرين جزائريين في 17أكتوبر 1961، وهي المرة الأولى التي يتوجه فيها رئيس فرنسي إلى مكان المجزرة.

 

جماجم المقاومين

المتحف الوطني الفرنسي مستعد لإعادة جماجم مقاومين جزائريين - حرية برس Horrya  press

وبالنسبة لجماجم المقاومين الجزائريين التي تتباهى سلطات الاستعمار بعرضها في متحافها، فإن فرنسا تحتفظ إلى اليوم بـ18 ألف جمجمة في متحف “الإنسان” بباريس، منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها.

وفي جويلية 2020 استعادت الجزائر 24 جمجمة لقادة من مقاومة الجزائر (قبل اندلاع ثورة نوفمبر 1954)، قتلوا ثم قطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي منتصف القرن الـ19. وتقول السلطات الجزائرية، إن المفاوضات متواصلة لاسترجاع جماجم أخرى (لم يحدد عددها)، وتؤكد أن فرنسا وضعت قانوناً يجعل من هذه الرفات محمية ضمن التراث الفرنسي.

 

جرائم بداية الاستيطان

تفاصيل نحر 1800 شخص في الحراش! – الشروق أونلاين

وقبل ثورة التحرير المجيدة، قام الاستعمار الفرنسي بعمليات إبادة جماعية على غرار  جريمة قبيلة العوفية (ضواحي مدينة الأربعاء بالبليدة) ووقعت في 5 أفريل 1832 وتمثلت في إبادة القبيلة بكامل أفرادها ليلة الـ5 إلى الـ١6 أفريل 1832، وألقي القبض على شيخها المسمى الشيخ ربيعة فأعدم، وأرسل رأسه إلى الدوق دو رفيقو Duc de Rovigo في العاصمة، بعد اتهام القبيلة بالاعتداء على قافلة كانت تحمل هدايا وتموينا للفرنسيين المتمركزين في العاصمة على حدّ تبريرهم لها.

وقد أشار لهذه المجزرة بكل مرارة بعض الكتاب الفرنسيين الذين أكدو أن تنفيذ الجريمة لم يفرق بين الكبير والصغير، ولا بين الرجل والمرأة، وصار مرتكبها يتخيل أرواح الأبرياء، أشباحا تطارده كلما حلّ الظلام. ومن بين الجرائم الفضيعة أيضا جريمة غار الفراشيش أو الفراشيح بجبال الظهرة في 20 جوان1845، التي تمثلت في إبادة وحرق أبناء قبيلة أولاد رياح (على بعد 80 كلم من مدينة مستغانم) داخل مغارة بعد أن حاصرهم فيها بواسطة دخان النيران التي أشعلها لمدة يومين أمام فوهة المغارة، هذه الحادثة التي ترتبت عن معركة كبيرة وقعت بالمنطقة، بين قوات الاحتلال والمقاومين، وعرفت بانتفاضة الطرق الصوفية، وانتقاما لخسائر العدو، غزا القائد بليسييه Jean-Jacques Pélissie (1794- 1864) مشاتي القبيلة، وحطم أملاكها، وأحرق ما صادفه، على نسق سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الجنرال بيجو، ففر أفراد القبيلة المذكورة إلى منطقة الظهرة، واحتمت بغار (كهف) عرف بغار الفراشيش، بكامل فئاتها من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، وبما يملكونه من دواب. وكون الكهف مفتوحا على جهتين، ويتمتع بموقع استراتيجي تسمح لمن يسيطر عليه بإدارة شؤون المعركة كما يشاء، وأمام هذا الوضع طلب بليسييه، رافع راية الحضارة والقيم الإنسانية، من القبيلة الاستسلام فأجابته بالرفض متحدية إياه بالمقاومة بالرصاص، حينها خطرت له فكرة جهنمية، طلب بموجبها من جنوده تكديس أكوام الحطب، وإحاطة الكهف بها من الجهتين، وقام بإيقاد النار، ليجبر أفراد القبيلة على الاستسلام، أو الموت اختناقا بالدخان، ومضى اليوم الأول وحلّ الظلام، فزاد في طلب التعزيزات وإيقاد النار، واستمر الوضع إلى اليوم الموالي، حتى وصفها مؤرخوهم بأنها عملية تحميص العرب على النار بدم بارد، وقبل حلول فجر اليوم الثالث من الحصار، وقع انفجار مهول في قلب الكهف، فكان إيذانا بموت ما يقارب الألف شخص تقريبا.

 

جرائم من نوع آخر

Alger, la cathédrale saint Philippe et le palais d'hiver du gouverneur,  alger-roi.net

وللاستعمار الفرنسي جرائم غير مباشرة من نوع آخر مثل تحويل المؤسسات التعليمية خاصة الدينية منها (من مساجد _ كتاتيب _ زوايا)، إذ من أصل 176 مؤسسة في مدينة الجزائر وحدها مع بداية الاحتلال، لم يبق منها سوى (5) فقط سنة 1898، رغم أن كاتبا هولنديا أحصى عددها بـ700 مؤسسة دينية خلال القرن 17 تم تحويلها إلى كنائس، إسطبلات، ثكنات.

وتناسب ذلك طرديا مع ارتفاع نسبة الأمية، ففي بداية الاحتلال لم تكن نسبتها تتجاوز 6 بالمائة فقط على أقصى تقدير، أوصلتها فرنسا الاستعمارية قبيل الاستقلال إلى نسبة 96 بالمائة. ويمكن أخذ كل هذا هذا على أساس جرائم ارتبطت بالذات المعنوية للفرد الجزائري، أما الجرائم المرتكبة ماديا فيندى لها الجبين، وتبقى وصمت عار ولعنة تلاحقهم إلى أن يعترفوا بما اقترفوه في حق هذا الشعب الأبيّ.

م.ع