إجماع مدني يجدد الثوابت ويؤكد:

الوحدة الوطنية.. خط أحمر جزائري

الوحدة الوطنية.. خط أحمر جزائري
  • المجتمع المدني يرسّخ مناعة الجبهة الداخلية

في سياق وطني يتجدّد فيه النقاش حول ثوابت الدولة ووحدة المجتمع، جاء لقاء المجتمع المدني المنظم بولاية بجاية ليعيد تثبيت إحدى أكثر المسلّمات رسوخا في الوعي الجزائري: الوحدة الوطنية خيار لا يقبل المساومة.

فاللقاء الذي احتضنته المكتبة الرئيسية للقراءة العمومية “طاهر عميروشن”، وجمع منتخبين محليين ومثقفين وفنانين وفاعلين مدنيين، بعث رسالة رمزية هادئة تؤكد أن الجزائر، بكل تنوعها الجغرافي والثقافي واللغوي، تبقى وطنا واحدا غير قابل للتجزئة. ومن قلب منطقة القبائل، حيث حاولت بعض الخطابات المغرضة من الخارج زرع الشكوك، ارتفعت أصوات محلية لتجدد العهد مع التاريخ المشترك وتضحيات الشهداء، مؤكدة أن الانتماء الوطني في الجزائر حقيقة متجذّرة تتجاوز اللحظات والأحداث، وتستمد قوتها من وعي جماعي يرى في الوحدة أساس الاستقرار وضمانة المستقبل. لم يأتِ اختيار بجاية لاحتضان هذا اللقاء من باب الصدفة، ولا يمكن قراءته باعتباره حدثًا محليًا معزولًا عن السياق العام. فالمدينة التي ارتبط اسمها تاريخيًا بالنضال الوطني وبالحراك الثقافي والفكري، عادت لتؤكد من خلال هذا اللقاء أن الدفاع عن الثوابت الوطنية لا يحتاج إلى منابر صاخبة أو خطابات انفعالية، بقدر ما يحتاج إلى وعي هادئ يُعبَّر عنه في فضاءات المعرفة والحوار. كما يعكس تنوع الحضور من منتخبين محليين، وأدباء، وفنانين، وفاعلين في المجتمع المدني، صورة مصغّرة عن المجتمع الجزائري في تعدده وتكامل أدواره. هذا التعدد كان جوهر الرسالة التي حملها اللقاء، حيث تلاقت المسؤولية السياسية مع الحس الثقافي والالتزام المدني في خطاب واحد واضح المعالم. فحين تتقاطع هذه الأصوات المختلفة حول فكرة واحدة، فإنها تتحول من موقف إلى قناعة جماعية يصعب اختراقها أو التشكيك فيها. اللافت في هذا السياق، أن الخطاب الذي طغى على اللقاء لم يتسم بلغة التوتر أو الدفاع المرتبك، بل جاء هادئًا وواثقًا، يعكس شعورًا داخليًا بالاطمئنان تجاه وحدة البلاد. التأكيد على أن الجزائر “موحدة وغير قابلة للتقسيم” لم يُطرح كردّ فعل على تهديد آني فحسب، بل كحقيقة راسخة لا تحتاج إلى إثبات متكرر. هذا الأسلوب في التعبير يعكس نضجًا في الوعي الجمعي، حيث لم تعد الوحدة الوطنية موضوعًا قابلاً للمساومة أو النقاش الموسمي. ومن هنا، تتحول المبادرات المدنية من مجرد أنشطة محلية إلى رسائل ذات بعد سيادي، تؤكد أن حماية الوحدة الوطنية لم تعد حكرًا على المؤسسات الرسمية وحدها، بل مسؤولية يتقاسمها المجتمع بأكمله. فحين ينبع الخطاب الوحدوي من القاعدة، ومن داخل المناطق التي يُراد أحيانًا تصويرها خارج الإجماع، فإنه يكتسب قوة مضاعفة، ويغلق الباب أمام كل محاولات التشكيك أو الاستثمار في الهويات الضيقة، ممهدًا للانتقال إلى البعد التاريخي الذي شكّل الأساس الأخلاقي لهذه الوحدة.

 

من ذاكرة الشهداء إلى وعي الأجيال

وإذا كانت المبادرات المدنية تعبّر عن وعي حاضر بالوحدة الوطنية، فإن جذورها العميقة تمتدّ إلى ذاكرة جماعية صاغتها تضحيات جسام، استحضرها المتدخلون في لقاء بجاية بوصفها المرجعية التي لا يعلو عليها أي نقاش. فالتأكيد المتكرر على دماء الشهداء كان تذكيرًا بأن وحدة الجزائر تشكّلت عبر مسار طويل من الكفاح المشترك ضد الاستعمار، شارك فيه الجزائريون من كل المناطق دون تمييز. في هذا السياق، برز خطاب المنتخبين المحليين باعتباره حلقة وصل بين الماضي والحاضر، حيث جرى الربط بين تضحيات الأمس ومسؤوليات اليوم. فحين يُقال إن الجزائر “لن تكون أبدًا للبيع”، فإن المعنى يتجاوز الرفض السياسي للتقسيم، ليصل إلى مستوى أخلاقي يعتبر أي مساس بالوحدة إنكارًا للأصل وخيانة لتاريخ جماعي دُفع ثمنه دمًا ودموعًا. هذا الربط يعكس وعيًا بأن السيادة ليست مجرد مفهوم دستوري، بل أمانة تاريخية تنتقل من جيل إلى آخر. كما يكتسي استحضار الكفاح التحرري بعدًا تربويًا موجّهًا للأجيال الجديدة، في ظل عالم سريع التغيّر تتكاثر فيه محاولات التشكيك وإعادة قراءة التاريخ بعيون مجتزأة. فالخطاب الذي شدد على أن “الكفاح كان من أجل جزائر موحدة وغير قابلة للتقسيم” يضع الشباب أمام حقيقة ثابتة: أن التنوع الذي يعيشونه اليوم لم يكن يومًا نقيضًا للوحدة، بل كان أحد عناصر قوتها خلال أصعب المراحل. ومن هنا، تصبح الذاكرة الوطنية أداة تحصين لا عبئًا على الحاضر. وبهذا المعنى، تتحول الوحدة الوطنية إلى عقد أخلاقي غير مكتوب، يستمد شرعيته من التضحيات المشتركة أكثر مما يستمدها من النصوص القانونية. عقدٌ يجعل من أي دعوة للتقسيم خروجًا عن الإجماع التاريخي قبل أن تكون مخالفة سياسية، ويؤسس لوعي جمعي يرى في صون الوحدة استمرارية طبيعية لمسار التحرير، لا مجرد شعار يُرفع عند الأزمات.

 

الانتماء الذي لا يحتاج إلى إثبات

وانطلاقا من هذا الرصيد التاريخي المشترك، يبرز موقع منطقة القبائل داخل المعادلة الوطنية بوصفه انتماءً راسخًا لا يحتاج إلى إعادة تعريف أو تبرير. فاللقاء المنعقد ببجاية جاء ليقلب منطق السؤال رأسًا على عقب؛ بدل أن تُطرح المنطقة كموضوع نقاش أو تشكيك، قدّمها المتدخلون كجزء أصيل من النسيج الوطني، يتقاسم مع باقي المناطق الذاكرة ذاتها والمصير نفسه. هذا الطرح، الصادر من داخل المنطقة نفسها، يمنح الخطاب الوحدوي مصداقية مضاعفة، لأنه ينطلق من الواقع الاجتماعي لا من التصنيفات الجاهزة. تصريحات المنتخبين المحليين في هذا السياق، حملت دلالة خاصة، إذ عبّرت عن موقف قاعدي نابع من الشارع المحلي وليس عن خطاب مفروض من أعلى. التأكيد على أن سكان بجاية لم يتوقفوا يومًا عن الدفاع عن وحدة الجزائر يسلّط الضوء على فجوة واضحة بين الواقع المعاش وبعض الخطابات التي تحاول تصوير المنطقة خارج الإجماع الوطني. هذه الفجوة تكشف أن محاولات الاختزال والهويات المجتزأة غالبًا ما تصطدم بوعي محلي متماسك يرفض أن يُستعمل كورقة في صراعات عابرة. كما أن الإصرار على توصيف منطقة القبائل كـ“جزء لا يتجزأ” من الجزائر يُفهم هنا كإعادة تثبيت لمعادلة تاريخية واجتماعية. فالمنطقة التي أنجبت قامات نضالية وفكرية وثقافية ساهمت في بناء الدولة الجزائرية الحديثة، لم تكن يومًا على هامش المشروع الوطني، بل في قلبه. ومن هذا المنطلق، يصبح التشكيك في انتمائها محاولة لطمس هذا الإسهام، أكثر منه قراءة موضوعية للواقع. وفي هذا الإطار، يبرز اللقاء كرسالة مزدوجة: رسالة إلى الداخل تؤكد أن الوحدة الوطنية ليست موضع نقاش داخل المجتمع الجزائري، ورسالة إلى الخارج مفادها أن محاولات زرع الشقاق عبر اللعب على الخصوصيات الثقافية واللغوية محكوم عليها بالفشل. فحين يتحول الانتماء إلى قناعة يومية لا تحتاج إلى رفع الصوت لإثباتها، يصبح التنوع عنصر تماسك لا مدخلًا للانقسام، وهو ما يقود طبيعيًا إلى طرح العلاقة بين هذا التنوع والوحدة الوطنية ككل.

 

التنوع الثقافي ليس نقيضًا للوحدة.. بل شرط من شروطها

ومن هذا الفهم للانتماء غير القابل للتشكيك، تتضح المكانة الحقيقية للتنوع الثقافي داخل التجربة الوطنية الجزائرية، باعتباره أحد أعمدة الوحدة لا نقيضًا لها. فالحضور اللافت لمثقفين وكتّاب، من بينهم كاتب باللغة الأمازيغية، في لقاء بجاية، لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل رسالة واضحة مفادها أن التعبير الثقافي المتعدد يشكّل جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية الجامعة. هذا الحضور يعكس واقعًا جزائريًا تشكّلت فيه الوحدة عبر التعدد، لا عبر إلغائه أو تذويبه. لقد أظهرت مداخلات الفاعلين الثقافيين أن اللغة والثقافة ليستا أدوات انقسام، بل جسور تواصل حين تُدرجان داخل إطار وطني جامع. فالدعوة إلى التماسك والوحدة، الصادرة بلغات متعددة ومن مرجعيات ثقافية مختلفة، تعكس انسجامًا عميقًا بين مكوّنات المجتمع، وتؤكد أن الهوية الجزائرية ليست قالبًا واحدًا جامدًا، بل بناءً مركبًا استطاع عبر التاريخ استيعاب الاختلاف وتحويله إلى مصدر ثراء. كما يبرز في هذا السياق أن التجربة الجزائرية قدّمت نموذجًا خاصًا في إدارة التنوع، حيث لم يُنظر إليه يومًا كتهديد للكيان الوطني، بل كواقع طبيعي يتعايش مع الثوابت الجامعة. فخلال حرب التحرير الوطنية، التقى الجزائريون رغم اختلاف مناطقهم ولهجاتهم وثقافاتهم حول هدف واحد، وهو ما أعاد المتدخلون التذكير به، معتبرين أن ما وحّدهم بالأمس قادر على توحيدهم اليوم في مواجهة أي محاولة لزرع الفرقة. ومن هنا، يصبح التنوع الثقافي شرطًا من شروط صلابة الوحدة الوطنية، لا عامل هشاشة فيها. فكلما جرى الاعتراف بالخصوصيات الثقافية داخل الإطار الوطني، ازدادت قوة الانتماء المشترك وتراجعت قابلية الاختراق. هذا الوعي، الذي عبّرت عنه مداخلات لقاء بجاية بهدوء وثقة، مهّد للانتقال إلى الدور العملي الذي يضطلع به المجتمع المدني في حماية هذا التوازن الدقيق بين الوحدة والتنوع، خاصة في ظل التحديات المعاصرة.

 

في مواجهة محاولات التشكيك: المجتمع المدني كخط الدفاع الأول

وفي ظل هذا التوازن بين الوحدة والتنوع، يبرز دور المجتمع المدني كفاعل أساسي في تحصين الجبهة الداخلية ومواجهة محاولات التشكيك التي تستهدف الثوابت الوطنية. فاللقاء المنظم ببجاية قدّم نموذجًا عمليًا لكيفية تحوّل المبادرات المدنية إلى مساحة واعية للتصدي الهادئ لأي خطاب يسعى إلى المساس بالوحدة الترابية، دون الانجرار إلى منطق الاستقطاب أو الردود الانفعالية. هذا الأسلوب يعكس إدراكًا متقدمًا لطبيعة التحديات الراهنة، حيث لم تعد المعارك تُخاض فقط بالوسائل التقليدية، بل عبر الخطاب والتأثير وتوجيه الرأي العام. وتكشف مداخلات المشاركين عن وعي جماعي، بأن أخطر محاولات التفكيك هي تلك التي تتسلل عبر التشكيك الناعم وبثّ الشكوك تحت عناوين ثقافية أو حقوقية زائفة. في هذا السياق، جاء التأكيد على وحدة الجزائر كخط أحمر غير قابل للتفاوض، ليس من باب التخويف أو التحريض، بل من منطلق حماية السلم الاجتماعي وصون التماسك الوطني. فحين يعبّر المجتمع المدني عن هذا الموقف بوضوح، فإنه يسحب البساط من تحت كل محاولات الاستثمار في الانقسام. كما يبرز الفرق جليًا بين خطاب التفكيك العابر، الذي غالبًا ما يرتبط بأجندات ظرفية أو خارجية، وخطاب الانتماء المتجذّر في الواقع الاجتماعي. فالأول يعتمد على الإثارة وإعادة إنتاج الأزمات، بينما يستند الثاني إلى التاريخ المشترك والعيش اليومي المتداخل بين الجزائريين. هذا التمايز يمنح الخطاب الوحدوي مصداقية أكبر، لأنه لا يقوم على النفي أو المواجهة المباشرة، بل على ترسيخ حقائق راسخة في الوعي الجمعي. ومن خلال هذا الدور، يتحول المجتمع المدني إلى خط الدفاع الأول عن الوحدة الوطنية، ليس بديلاً عن مؤسسات الدولة، بل شريكًا في حماية التماسك الداخلي. فكلما اتسعت مساحة الوعي داخل المجتمع، تراجعت فرص الاختراق، وأصبح الحفاظ على الوحدة ممارسة يومية تتجسد في الحوار والتلاقي والمبادرات الهادفة.