تطور الأحداث السياسية في بداية الخمسينيات والتي توجت باندلاع الثورة المظفرة، دفع المرأة الجزائرية إلى أن ترفض البقاء معزولة عما يجري من أحداث، بل وأصرت على المشاركة فيها بشكل واضح ومباشر وأن تسجل وجودها عمليا في ثورة نوفمبر 1954، فكان عليها أن تضطلع بواجبها في العمل الثوري بجانب الرجل، وأن تتحمل كأم وزوجة وأخت القسط الأكبر من مشاق وأتعاب وتضحيات سواء في الحفاظ على تماسك الأسرة والقيام بشؤون البيت، أو القيام برعاية ضحايا الحرب وإنجاز الأعمال الثورية.
وانطلاقا من إيمانها الراسخ بدورها الفعال في كل الجبهات، أدركت المرأة مسؤوليتها تجاه دينها ووطنها، فنهضت وقامت بجانب الرجل داخل صفوف الثورة المسلحة بإيمان وإرادة صلبة تعزز صفوف المجاهدين والمجاهدات وتكافح في الريف والمدينة…
دور ريادي ووظيفة فعالة
تجاوزت الثورة التحريرية النظرة المطالبية لتحرير المرأة والرجل ككل، بل أعطت المرأة دورا ووظيفة فعالة. فكلفت بأعمال تتجاوز طبيعتها البيولوجية، فقد مارست أعمالا كثيرة في صفوف جيش التحرير بعدما تدربت على استعمال السلاح وعلى علاج المرضى والجرحى، واهتمت أيضا بشؤون الإدارة بمساعدة كاتب القيادة، واشتغلت بالكتابة على الآلة الراقنة لإعداد المنشورات والأوراق والدعايات وإيصال الاشتراكات أو كتابة التقارير والقوانين العسكرية وتلقي المجاهدة المثقفة دروسا للتوعية السياسية.
أما الفدائية في المدن، فإنها تنفذ عملياتها وسط السكان بدون أن ترتدي الزي العسكري، وكانت المكلفات بهذه العمليات يتصفن بالشجاعة الفائقة وطول النفس والصبر المنقطع النظير، حيث تضعن القنابل في المقاهي ومراكز تجمع العدو في المدن، وفي وضح النهار. ويلقى القبض على هذا النوع من النساء المجاهدات، ويبذل المستعمر قصارى جهده لتشويه أجسادهن وانتهاك أعراضهن من أجل الحصول على معلومات منهن،
وبعد أن ييأس في ذلك يحكم على بعضهن بالإعدام والبعض الآخر بالسجن.
في حين تقوم المرأة المسبلة بأعمال عديدة كالاتصال بين الشعب والفدائيين من جهة وقيادات الثورة من جهة ثانية، كما تعمل على حراسة المجاهدين وتأمين ملاذهم ونقاط عبورهم، وظهر هذا الدور بفعالية قصوى عندما لجأت فرنسا إلى خطة تجميع السكان في المحتشدات بهدف عزل الثورة عن الشعب، حيث تصدت قيادة الثورة لذلك بتجنيد النساء لهذه المهمة، فاستطاعت أن تربط الاتصال بجيش التحرير.
حقائق وإنجازات
تتبوأ المرأة الجزائرية مكانة متميزة ومهمة في دفع مسار التنمية وترقية المجتمع، وتأسست لها هذه المكاسب منذ السنوات الأولى للاستقلال وتدعمت أكثر خلال العشريات الأخيرة، حيث شهدت نقلة نوعية في مختلف السياسات والبرامج التي أقرتها الحكومة لفائدة المرأة في مختلف المجالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والتربوية، دون إغفال مجال العناية الخاصة بأوضاع المرأة والأسرة وتطويرها، ولعل استحداث وزارة تعنى بالمرأة وقضاياها لأكبر دليل على التطورات الكبيرة المنجزة لصالح المرأة الجزائرية.
وحظي ملف المرأة في الجزائر منذ الاستقلال بكل اهتمام، مما أدى بها إلى احتلال مكانة في حركية المجتمع، مُشاركة بذلك في كافة مسارات التنمية والتطور، لاسيما على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
…على الصعيد الاجتماعي
التزمت الجزائر وما تزال بالنضال من أجل تحقيق مبدأ المساواة بين الجنسين، باتخاذ جملة من الإجراءات في مجالات شتى ووضع برامج مكنت من تحقيق إنجازات كبرى، نذكر منها تبني الحكومة مقاربة النوع الاجتماعي المبنية على إزالة العراقيل التي تمنع الاندماج الاجتماعي والمهني للنساء، من خلال وضع استراتيجية وطنية. ومن أهم الإنجازات التي تحققت للمرأة الجزائرية -حسب تقرير سابق صدر عن الوزارة المنتدبة المكلفة بالأسرة وقضايا المرأة- ترقية حقوقها السياسية، إذ لا يمكن تجاوز هذا الإنجاز الذي مكن من توسيع حظوظ تمثيلها في المجالس المنتخبة، حيث تنص المادة 31 مكرر على أن: “تعمل الدولة على ترقية الحقوق السياسية للمرأة بتوسيع حظوظ تمثيلها في المجالس المنتخبة، على أن يحدد قانون عضوي كيفيات تطبيق هذه المادة”، علما أن المادة 31 من الدستور تضع على عاتق مؤسسات الدولة مسؤولية ضمان المساواة وإزالة كل العقبات التي تحول دون مشاركة الجميع في كل مناحي الحياة.
أما في مجال الأحوال الشخصية، فجاء الأمر رقم 05-02 المعدل والمتمم للقانون رقم 84 – 11 المؤرخ فـي 9 جوان 1984، المتضمن قانون الأسرة، ليجسد واحدا من الالتزامات الكبرى من أجل ترقية الخلية العائلية عموما ووضعية المرأة تحديدا، من خلال تعزيز حقوقها في المساواة والمواطنة.
كما بادرت الجزائر بإعداد استراتيجية وطنية لمحاربة العنف ضد النساء (2006)، هدفها الأسمى الوقاية من كل أشكال العنف والتمييز تجاه النساء والتكفل المناسب بالضحايا، إلى جانب إعداد استراتيجية للاتصال والدعوة بغية كسب التأييد من أجل التغيير والتوعية والتجنيد الاجتماعي، للوقاية من كل أشكال العنف، خاصة تجاه المرأة، ومن ذلك محو الأمية الذي خصص له غلاف مالي بقرابة 50 مليار دينار، تستهدف بشكل خاص الفئة العمرية المتراوحة بين 15 و49 سنة، قصد القضاء عليها تماما في آفاق 2015.
من جهتها، تكشف الإحصائيات عن تطور نوعي في تكوين العنصر النسوي، وإعداد برامج خاصة بالتربصات المهنية والتكوين المهني موجهة للنساء الحرفيات والماكثات في البيت، حيث وصلت نسبة التحاق الفتيات بمراكز التكوين المهني إلى أكثر من 40%، كما تم تعزيز التشغيل النسوي، حيث سجلت نسبة عمالة المرأة، خاصة في القطاع العام أكثر من 32% من مجموع الموظفين.
… على الصعيد الاقتصادي
تحظى مساهمة النساء الاقتصادية باهتمام خاص في إطار تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، حيث يتواصل تشجيع إدماج المرأة في الاقتصاد الوطني، وتشير الدراسات المعدة في هذا المجال إلى أن أكثر من نصف الإناث العاملات لديهن مستوى التعليم الثانوي وأكثر، بينما لا تتجاوز هذه النسبة الربع لدى الذكور.
ومن أهم خصائص عمل المرأة الجزائرية، ارتفاع نسبة النساء فـي بعض الفروع والأسلاك المهنية مثل التعليم والتربية: 60% (سنة 2007)، الصحة 60% (سنة 2007) والقضاء 36.82% (جويلية 2008). كما يمثلن نحو 40 % من مجموع الإعلاميين في الجزائر (وفي قطاع الإعلام السمعي والبصري، تمثل النساء حوالي 70 % من مجموع العاملين).
كما جاء تجسيد برنامج التجديد الريفي (2007 -2013) ليضيف دعما آخر للآليات المؤسسية المُسهلة لدعم المرأة المنتجة، منها الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر _أونجام_ حيث مول الجهاز 548 ألف مستفيد منذ عام 2004، شكلت نسبة المشاريع الممولة لصالح المرأة 61 %.
وعلى الصعيد المهني، فإن الإحصائيات التي كشف عنها الديوان الوطني للإحصائيات خلال فيفري 2014، تشير إلى أن نسبة الإدماج المهني للمتحصلين على شهادات التعليم العالي في الجزائر بلغت 67 بالمائة في سوق عمل ما زال بحاجة إلى مزيد من الموارد البشرية المؤهلة.
وحسب التحقيق الذي أكد أن هذه النسبة تقدر بـ5.77 بالمائة لدى الرجال و1.58 بالمائة لدى النساء، وتعد نسبة النشاط الاقتصادي حسب مستوى الإدماج _أهم_ لدى المتحصلين على شهادات التعليم العالي، بنسبة 67 بالمائة متبوعة بأصحاب شهادات التكوين المهني بنسبة 64 بالمائة، وأخيرا غير الحاصلين على شهادات بنسبة 6.32 بالمائة، وهذا دليل على أن المرور إلى اقتصاد صناعي وحديث ومنتج يتطلب موارد بشرية مؤهلة.
وبلغت نسبة تشغيل السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 سنة وأكثر، حسب تحقيق ديوان الإحصائيات؛ 39 بالمائة سنة 2013، في حين تبلغ هذه النسبة 7.63 بالمائة بالنسبة للرجال و9.13 بالمائة لدى النساء، حسب نتائج التحقيق السنوي _نشاط وتشغيل وبطالة_ الذي أنجز من خلال عملية سبر آراء مست عينة متكونة من 115.195 شخصا، منهم 82962 بلغوا سن العمل.
وحسب مؤشر الجنس، بلغت نسبة تشغيل النساء المتحصلات على شهادات التعليم العالي 1.58 بالمائة، في حين بلغت نسبة تشغيل المتحصلات على شهادات التكوين المهني 1.37 بالمائة، لكنها لم تبلغ سوى 6.6 بالمائة لدى النساء اللواتي ليس لديهن أي شهادة، وبلغ حجم الفئة النشطة النسوية التي ما فتئت تزداد، حيث انتقلت من 166.000 سنة 2004 إلى 2.275.000 سنة 2013، أي ارتفاع بنسبة 37 بالمائة خلال عشرية واحدة.
المرأة الجزائرية تغيّر وجه الحراك
لم تشارك المرأة الجزائرية بشكل كبير في بداية حراك 22 فيفري من سنة 2019 لاعتبارات كثيرة، لكنها سرعان ما التحقت به وبشكل غير متوقع، بعد أن تبين أن قوى الأمن لن تقمع المظاهرات كما كان يتخوف الكثيرون، حيث اقتصرت المشاركة في البداية على الشباب القوي المتحمس، القادر على مواجهة قوات الأمن.
لكن منذ الجمعة التي صادفت عيد المرأة، تغيرت الصورة بالكامل، حيث اجتاحت المرأة الجزائرية التظاهرات في تلك المناسبة الخاصة بقوة غير متوقعة، وهي تحمل إلى جانب الشعارات السياسية التي تنادي بحرية الجزائريين وحقهم في الديمقراطية، الورود توزعها على المواطنين وعلى أفراد قوى الأمن، فكان ذلك تحولا جذريا في مسار الحراك الجزائري، الذي بدأ من حينها يأخذ طابعا مليونيا بامتياز.
واستطاعت المشاركة القياسية للمرأة الجزائرية في هذا الحراك أن تغير من وجهه بشكل واضح، ليصبح حراكا شعبيا بأتم معنى الكلمة، وسلميا إلى أبعد الحدود، كان فيه للمرأة المحامية والطبيبة والعاملة والطالبة والماكثة في البيت وغيرها من شرائح المجتمع النسائي، دور بارز في تشكيل الحراك تشكيلا فسيفسائيا بهيجا وبرائحة العطور الجميلة.
ما شجع المرأة الجزائرية أكثر، علاوة على التعامل الحضاري لقوى الأمن خاصة في البداية، على المشاركة وإثبات الذات وتكريس رغبتها الجامحة في التغيير، هو الجانب الأخلاقي من القضية، حيث أدهش حراك الجزائريين العالم وحتى الجزائريين أنفسهم، بالقدر العالي من الأخلاق، وخاصة ظاهرة رفض التحرش بالمرأة وسط التجمعات الحاشدة المختلطة، حيث لم يسجل خلال جميع مراحل الحراك الذي كان يتحرك بأمواج بشرية عاتية أي حادث يستحق الانتباه من ناحية التحرش الجنسي، بل إن الرجال والشباب كانوا يقومون بحراسة النساء بوصفهن أخوات وزوجات وأمهات، حتى إنه في الحالات النادرة التي سجلت مثل تلك الحالات من التحرش، من طرف أشخاص هم في الغالب من البلطجية الذين أرسلتهم العصابة الحاكمة لتشويه وجه الحراك، تلقوا ضربا مبرحا من الحشود، إلى درجة اختفت معها الظاهرة بشكل شبه كامل، لتزيد من درجة الأمان والتلاحم.
لمياء. ب