مشروع استراتيجي يجمع بين السيادة الغذائية وتنمية الجنوب وتعزيز الشراكات

“بلدنا”.. استثمار حقيقي في الصحراء

“بلدنا”.. استثمار حقيقي في الصحراء
  • 5000 وظيفة جديدة.. ومكاسب اجتماعية واعدة للجنوب

  • شركات محلية وعالمية تدخل عمق أدرار لإنجاح المشروع

حين وُقّعت عقود المرحلة الأولى من مشروع “بلدنا الجزائر” لإنتاج الحليب المجفف بقيمة تفوق نصف مليار دولار، كان الحدث إعلان عن استثمار ضخم في قطاع الأغذية، لكن في جوهره حمل رسالة سياسية وتنموية عميقة مفادها أن الجنوب الجزائري، وفي مقدمته ولاية أدرار، لم يعد هامشا في خريطة التنمية الوطنية، وتحوّل إلى مسرح حقيقي لاختبار قدرة الدولة على جذب الاستثمارات الكبرى، وتحقيق الأمن الغذائي، وإعادة توزيع النشاط الاقتصادي بعيدا عن المركزية التقليدية.

وبين رهانات الطقس والبنية التحتية والموارد البشرية، وبين وعود التشغيل ونقل التكنولوجيا، يبرز مشروع “بلدنا” كمحك فعلي لجدية الجزائر في بناء نموذج تنموي جديد لا يترك الصحراء خلفه. لم يكن اختيار ولاية أدرار لإنشاء مشروع ضخم لإنتاج الحليب المجفف مجرد قرار تقني مرتبط بالمساحات الزراعية الشاسعة أو بمناخ يسمح بزراعة الأعلاف، وإنما هو في جوهره إعلان سياسي عن دخول الجنوب الجزائري، رسميا، إلى دائرة الاستثمار المنتج. لأعوام طويلة، ظل هذا الامتداد الجغرافي الهائل يعاني من عزلة هيكلية، حيث اقتصرت أغلب المشاريع على خدمات محدودة أو تدخلات ظرفية، ما جعل الكثيرين ينظرون إلى الصحراء كعبء إداري أكثر منها كرافعة اقتصادية. واليوم، مع توقيع عقود استثمار تتجاوز قيمتها 500 مليون دولار ضمن المرحلة الأولى فقط، يبدو أن أدرار تتحول تدريجيا إلى ورقة رابحة في حسابات الدولة التنموية. هذا التحول جاء في سياق سياسي واقتصادي جديد تسعى فيه الجزائر إلى إعادة رسم خريطة النشاط الوطني، عبر توسيع نطاق الاستثمار ليشمل مناطق لم تكن في السابق ضمن أولويات المستثمرين ولا ضمن اهتمام الدولة نفسها. وإذا كانت مشاريع الطاقة في الجنوب، كالبترول والغاز، قد فرضت نفسها منذ عقود، فإن الاستثمار الزراعي والصناعي يبقى مجالا جديدا وغير مستهلك بعد، خاصة في ولايات مثل أدرار وتمنراست وإليزي. ومن هنا يكتسب مشروع “بلدنا” رمزيته كأول تجربة متكاملة تجمع بين الزراعة وتربية الأبقار والتصنيع الغذائي في منطقة صحراوية نائية. الأهمية الاستراتيجية لهذا المشروع تكمن في طبيعته وحجمه، وأيضا في قدرته على تغيير النظرة إلى الجنوب كمجال اقتصادي قابل للربح. فعندما تبدأ شركات ألمانية وأمريكية وقطرية وتركية بالتوافد إلى أدرار وتوقّع عقودا مع الدولة الجزائرية، فهذا يعني أن المنطقة باتت مشمولة بثقة المستثمر الأجنبي، وهو مؤشر يُقرأ دوليا على أن الجزائر توفر مناخا جاذبا حتى في المناطق التي كانت توصف سابقا بالصعبة أو غير المهيأة. إنها نقطة تحول في تموقع الجنوب داخل المعادلة الاستثمارية الوطنية. وما يزيد من أهمية هذه التجربة أنها جاءت متزامنة مع خطابات رسمية، تؤكد أن تنمية الجنوب تحوّلت من الشعارات إلى التزام فعلي يتجسد على الأرض. العقار الزراعي وُفّر بسرعة، رخص الحفر أُصدرت دون عراقيل، الربط بالكهرباء تم بمرونة، وتدخلت عدة وزارات لتسهيل الانطلاق. كل هذه الإجراءات تدل على أن الدولة قررت، هذه المرة، ألا تكتفي بالتصريحات، وتمضي في بناء نموذج عملي للتنمية المندمجة في أقصى الجنوب. ورغم أن المشروع لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن مجرد انطلاقته بهذه السرعة والجدية يوحي بأن أدرار أصبحت في قلب التحول التنموي الجديد للجزائر. وإذا كُتب النجاح لهذا المشروع كما هو مخطط له، فإن ذلك قد يفتح الباب أمام مشاريع أخرى أكثر جرأة، ويجعل من تجربة أدرار نموذجا يُحتذى في باقي ولايات الجنوب التي تنتظر فرصتها في التحول من هامش الجغرافيا إلى مركز القرار الاقتصادي.

 

بنية تحتية في طور التهيئة.. تحدي الجغرافيا والمناخ والخدمات

وإذا كان مشروع “بلدنا” قد رسّخ موقع أدرار كوجهة استثمارية واعدة، فإن نجاحه الكامل يظل مرهونا بما يتجاوز العقود والتصاميم والتمويلات، ويتعلق أساسا بـجاهزية البنية التحتية لمرافقة هذا التحول. فالصحراء، بكل إمكاناتها الجغرافية، تظل بيئة قاسية من حيث المناخ وبعد المسافة ومحدودية الخدمات، ما يجعل من إنجاز مشروع بهذا الحجم اختبارا حقيقيا لقدرة الدولة على تجاوز التحديات التقنية واللوجستية. ومع بداية الأشغال، بدأت تتضح معالم هذه التحديات، سواء في حفر الآبار أو تركيب أنظمة الري، وأيضا في بناء مرافق الحياة الأساسية التي تجعل من موقع المشروع منطقة عمل مستقرة وجاذبة للكفاءات. التحدي الأول تمثل في عزل الموقع عن شبكات الطرق والنقل السريع، وهو ما فرض على القائمين على المشروع التفكير في خلق مسارات جديدة تربط القواعد السكنية للعمال بمناطق الإنتاج والمصنع. وقد وقّعت شركة “Condor-Travocovia” عقدا لإنشاء القاعدة الثانية لإقامة الفرق العاملة، فيما شرعت “RedMed” في إنجاز القاعدة الأولى، ما يشير إلى الوعي المسبق بالحاجة إلى بيئة معيشية مؤمنة وآمنة، خاصة في منطقة لا تتوفر فيها حتى الآن على خدمات صحية وتجارية وتعليمية متكاملة. وهنا يظهر الفارق بين مشروع يُلقى في الصحراء، ومشروع يُخطط له بعقلية الاستدامة والتهيئة الشاملة. أما التحدي الثاني، فيكمن في المناخ القاسي والتقلبات الحرارية التي تفرض أنظمة عمل خاصة وتجهيزات هندسية متكيفة. فمصنع الحليب المجفف الذي ستنجزه “GEA Technologies” الألمانية يتضمن وحدة تجفيف بارتفاع 40 مترا، وهو ما يتطلب ضمان الاستقرار الهيكلي والتقني في بيئة رملية عاتية الرياح. كما أن زراعة الأعلاف عبر 700 وحدة ري محوري تتطلب بنية تحتية مائية مرنة ومستمرة، وهي مسؤولية كُلفت بها شركات مثل “Valmont” الأمريكية و”AFKO”  التركية، إلى جانب الشركة الجزائرية “EFORHYD” المختصة في حفر الآبار. إن توزيع هذه الأدوار بين شركات عالمية ومحلية يعكس حجم التحدي وتعقيد البنية التحتية المطلوبة. ولا يقتصر الأمر على الجوانب التقنية فقط، إذ يمتد إلى توفير الموارد البشرية المؤهلة، وهو تحد حقيقي في منطقة مثل أدرار، حيث يندر وجود مهندسين وتقنيين مختصين في المجالات الزراعية والتصنيعية الحديثة. هذا الواقع يدفع نحو طرح أسئلة جوهرية حول دور مؤسسات التكوين المهني والمعاهد المتخصصة في إعداد جيل قادر على مواكبة المشاريع الجديدة.

 

الأثر الاجتماعي والاقتصادي.. مناصب عمل وفرص استقرار في الجنوب

وإذا كانت الشراكة المتوازنة بين الجزائر والفاعلين الدوليين قد ضمنت انطلاقة قوية لمشروع “بلدنا”، فإنّ الأثر الأهم لهذا المشروع لا يُقاس فقط بعدد الهكتارات المستصلحة أو وحدات الري المحوري المركبة، وإنما بما سيخلّفه من تحوّلات اجتماعية واقتصادية ملموسة داخل محيطه الجغرافي. فالمشروع، من خلال حجمه وتنوع أنشطته، يُرتقب أن يُحدث ديناميكية غير مسبوقة في ولاية أدرار، قد تعيد رسم الخريطة السوسيواقتصادية للمنطقة، وتفتح آفاقا جديدة أمام الشباب المحلي الذي لطالما وجد نفسه محصورا بين شحّ الفرص وهجرة اضطرارية نحو الشمال أو الخارج. تشير التقديرات الرسمية إلى أن المشروع سيوفّر أكثر من 5000 منصب عمل مباشر، وهو رقم يحمل دلالة قوية في منطقة تُعرف بارتفاع معدلات البطالة، خاصة في أوساط الشباب. غير أن أهمية هذه المناصب تكمن في العدد وفي نوعية الوظائف المقترحة: تقنيون، مهندسون، سائقو معدات، عمال زراعيون، مختصون في التبريد والصيانة، عمال خدمات… مما يعني إمكانية تطوير كفاءات محلية وتعزيز التكوين المهني بما يتماشى مع متطلبات المشروع. ومن زاوية أخرى، فإن المشروع يفتح الباب أمام خلق مناصب عمل غير مباشرة، في قطاعات مرافقة مثل النقل، والتموين، والبناء، والخدمات الصحية والتجارية. كما أن القواعد السكنية التي ستُنجز لفائدة الفرق العاملة، ستُحوّل تدريجيا المنطقة إلى مركز بشري نشط يحتاج إلى منظومة خدمات متكاملة. هذا الواقع الجديد سيُحفّز المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على التمركز في محيط المشروع، بما يعزز النسيج الاقتصادي المحلي، ويمنح للجنوب ملامح جديدة تتجاوز الطابع التقليدي المعتمد على الفلاحة المعاشية أو النشاط الإداري المحدود. اجتماعيا، يمكن أن يشكل المشروع نقطة تحول في نظرة السكان المحليين للدولة والاستثمار. فبعد سنوات، يرى أبناء أدرار اليوم أن المشاريع الكبرى لم تعد حكرا على الشمال أو المناطق الساحلية. وإذا نجحت الدولة في إشراك أبناء المنطقة ضمن فرق العمل، ومنحت الأفضلية في التوظيف والتكوين لأبناء الجنوب، فإن المشروع سيتحول إلى أداة للاستقرار المجتمعي وتعزيز الانتماء الوطني، بدل أن يكون سببا في التوتر أو الشعور بالإقصاء. ومن هنا، تبرز أهمية البعد الاجتماعي في التخطيط للمشاريع الاقتصادية الكبرى، خاصة في مناطق مثل الصحراء.

 

الأمن الغذائي والسيادة الوطنية.. مشروع بلدنا كنقطة تحول

كما ترتبط أبعاد مشروع “بلدنا” في ولاية أدرار بـقضية استراتيجية تمس كل بيت جزائري: الأمن الغذائي. فلطالما شكل مسحوق الحليب أحد أبرز رموز التبعية الغذائية التي ترهق الميزانية العمومية، وتُبقي البلاد رهينة للتقلبات الدولية، سواء من حيث الأسعار أو سلاسل التوريد. وفي هذا السياق، لا يُنظر إلى المشروع كاستثمار تجاري فقط، بل كـ”رهان سيادي” يهدف إلى التحرر من استيراد مادة حيوية تستهلكها ملايين العائلات يوميا، وتشكل عنصرا أساسيا في برامج الدعم الغذائي. تشير الأرقام الرسمية إلى أن الجزائر تستورد سنويا ما قيمته أكثر من مليار دولار من مسحوق الحليب، ما يجعلها واحدة من أكبر المستوردين عالميا لهذه المادة. هذا الواقع يضع الاقتصاد الوطني في موقع هش، خصوصا في أوقات الأزمات الدولية، مثل جائحة كورونا أو الحرب في أوكرانيا، حيث تأثرت سلاسل الإمداد وأسعار المواد الغذائية بشكل مباشر. من هنا، تُفهم أهمية مشروع “بلدنا” ليس فقط كمنتج جديد في السوق، وإنما كوسيلة لتأمين جزء معتبر من احتياجات البلاد، إذ يهدف المشروع لتغطية 50% من الاستهلاك الوطني، وهي نسبة كفيلة بتخفيف العبء عن الخزينة وضمان حد أدنى من الاكتفاء الذاتي. ويمثل المشروع أيضا، فرصة لإعادة التوازن لمنظومة الدعم الغذائي، إذ أن التحكم في الإنتاج المحلي من الحليب المجفف سيمكن الدولة من ضبط الأسعار ودعم الفئات الهشة بشكل أكثر فاعلية، دون الاعتماد على السوق الدولية أو مواجهة تقلبات سعر العملة الصعبة. كما أن وجود مصنع محلي قادر على التجفيف، والتخزين، والتوزيع، يمنح البلاد هامش مناورة أكبر في أوقات الأزمات أو الانقطاعات المفاجئة. بهذا المعنى، يتحول الأمن الغذائي من شعار عام إلى سياسة عملية مدعومة بمنشآت إنتاجية قائمة على الأرض، وخطط مدروسة بعيدة عن الارتجال. لكن الأهمية الكبرى للمشروع تتجاوز الغذاء نفسه، وتمس جوهر السيادة الاقتصادية. فمنذ سنوات، تحاول الجزائر بناء نموذج اقتصادي بديل عن الريع النفطي، قائم على تنويع الإنتاج وتقليص التبعية، سواء في الغذاء أو الدواء أو التكنولوجيا. ومشروع “بلدنا” يندرج ضمن هذا التوجه الجديد، حيث تجمع الدولة بين استغلال الأراضي، وجذب الشريك الأجنبي، والاستثمار في الفلاحة الصناعية، وكل ذلك برؤية متكاملة هدفها تحقيق الاستقلالية التدريجية عن الخارج. إنه التحول من الاقتصاد القائم على الشراء، إلى اقتصاد ينتج، ويصدّر، ويصنع قراراته انطلاقا من قدراته الذاتية. وفي ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن مشروع “بلدنا” هو نقطة تحول في سياسة الأمن الغذائي الوطني، ومحطة أولى في مسار أوسع لبناء منظومة إنتاج غذائي وطنية مستقرة ومستدامة. وإذا نجح هذا المشروع في بلوغ أهدافه، فإن انعكاساته لن تتوقف عند تقليص الفاتورة الغذائية، وستمتد لتشمل استقرار الأسعار، وتعزيز ثقة المواطن في الدولة، ورفع مناعة البلاد تجاه الأزمات الدولية. إنها تجربة تتقاطع فيها التنمية المحلية بالسيادة الوطنية، والفلاحة الصناعية بالقرار السياسي، لتشكل بذلك أحد أبرز عناوين الجزائر الجديدة.