الجزائر -فقدت الجزائر برحيل المجاهد ورئيس الحكومة الأسبق، عبد السلام بلعيد، واحدا من الشخصيات التاريخية والسياسية التي تركت بصمتها واضحة في مسار الحركة الوطنية وبعدها في مرحلة الاستقلال من خلال توليه مناصب في الدولة انتهت برئاسة الحكومة.
بداية مسيرة الفقيد الذي هو من مواليد 1928 بعين الكبيرة بولاية سطيف، كانت النضال باكرا في صفوف الحركة الوطنية، كما كان من الأعضاء المؤسسين لرابطة الطلاب المسلمين في شمال إفريقيا (1951-1953) وكذا عضو مؤسس لاتحاد الطلاب المسلمين الجزائريين سنة 1953.
التحق بعدها بصفوف الثورة التحريرية المظفرة سنة 1955 أين أسس، رفقة مجموعة من الطلبة، الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في جويلية 1955 ليساهم بذلك في الإعلان عن إضراب الطلبة الجزائريين يوم 19 ماي 1956 ويلتحق بقيادة الثورة بالقاعدة الغربية أين أوكلت له العديد من المهام.
وفي سنة 1958، كلف بمهام في اطار هياكل الحكومة المؤقتة منها مساعد لوزير الشؤون الاجتماعية والثقافية، ليعين سنة 1961 في ديوان الحكومة المؤقتة إلى غاية الاستقلال.وبعد وقف إطلاق النار مباشرة كلف بتسيير الشؤون الاقتصادية في الهيئة التنفيذية المؤقتة.
وببزوغ فجر الاستقلال، واصل الفقيد خدمة الوطن في العديد من المناصب السامية منها رئيسا للوفد الجزائري المفاوض مع الطرف الفرنسي بخصوص ملف الطاقة، مديرا عاما لشركة سوناطراك (1964-1965)، وزيرا للصناعة والطاقة (1965-1977)، وزيرا للصناعات الخفيفة (1977-1979) ورئيسا للحكومة (1992-1993) وأحيل على التقاعد في 1993.
ولعل الحديث عن تاريخ المجاهد الراحل عبد السلام بلعيد، والغوص في مذكرات الفقيد والأحداث التي تحتويها لا يسع المجال لحصرها، لكن ينبغي القول أن عبد السلام بلعيد كان حريصا لدى توليه رئاسة الحكومة في بداية التسعينيات على إطلاق عملية إصلاح اقتصادي ومالي فأراد جمع أموال البلد في نظام بنكي رقمي ليتمكن من مراقبة مصدر ووجهة كل دينار، خصوصا وأن الجزائر كانت حينها تئن تحت أزمة اقتصادية خانقة، حيث دعي عبد السلام وقتها، بصفته رئيس حكومة، إلى نشرة الثامنة في التلفزيون الرسمي ليشرح ما سيقوم به لإنقاذ الوطن، فأجاب بعبارته المشهورة: “لازم نزيّرو السانتورة”، والتصقت به بعد ذلك وقصد بها “التقشف” وكان يعني علية القوم من الأغنياء قبل الشعب.
وكان عبد السلام يعي جيدا خطورة وحساسية عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي التي باشرها وقال آنذاك: “علابالي بلي دخلت خنشوشي في غار الأفعى، كيما هذاك الثعلب ولى الذيب..”، لأنه كان يعرف جيدا الاقتصاد كله في جيب قلة من “ضباط فرنسا” وأموال البلاد كلها تمر خارج البنوك ومن البنوك والبنوك وما خارجها في أيديهم، فأراد بذكاء أن يضع يده بالقانون على كل شيء، لكن لم يلبث أن تمت إقالته مضحيا بنفسه مرة أخرى من أجل الجزائر وشعبها كما فعل في الثورة.
غصة في حلق “ضباط فرنسا”
شغل عبد السلام منصب رئيس الحكومة بداية الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي.
وتميزت فترة رئاسته الحكومة (1992 ـ 1993) ببداية الأزمة الأمنية في البلاد وما تبعها من أزمة اقتصادية خانقة، حيث عرف عن الراحل موقفه الرافض للاقتراض الخارجي لمواجهة تبعات الأزمة الأمنية والاقتصادية سنة 1993، والذي عجل برحيله عن الحكومة في العام ذاته.
وخاض بلعيد عبد السلام سجالات إعلامية ساخنة مع “ضباط فرنسا” قبل سنوات، وذلك على خلفية نشر جزء من مذكراته، التي خصّ بها فترة رئاسته للحكومة (1992/1993)، ما أدى إلى التراشق الإعلامي مع الجنرال محمد تواتي، المستشار السياسي لوزير الدفاع السابق خالد نزار.ولخّص الرجل خلافه مع هؤلاء الجنرالات الذين تحكمّوا وقتها في زمام السلطة، في الخلفيات الأيديولوجية المتناقضة بين الطرفين، فهو ينحدر من حزب الشعب والتيار الاستقلالي المتمسك بالبعد العربي الإسلامي، بينما جاء هؤلاء من الجيش الفرنسي ويدافعون عن القيم الغربية، كما شكّل رفضه للاستدانة من المؤسسات الدولية من أجل تمويل عمليات الاستيراد، نقطة خلاف جوهرية، فكانوا برأيه يدافعون فقط عن مصالح البارونات التي يقاسمونها المال والثروة.وقد دفع ثمن شجاعته في الوقوف بوجه “ضباط فرنسا” وهو المجاهدة بالإقالة والتهميش لكن ذلك لم يثنه عن العيش بكرامة عصيّا على الانحناء.
ويقول رئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام، في أحد التصريحات بأن “التحاق الضباط الجزائريين الذين كانوا في صفوف الجيش الفرنسي بالثورة التحريرية منذ 1958، كان خيارا مُبرمجًا ومُمنهجا، وأن الجنرال ديغول خطّط لإدماج هؤلاء في الثورة منذ وصوله للسلطة في عهد الجمهورية الخامسة، وأن تقرير مصير الشعب الجزائري واقع لا مفرّ منه، وبالتالي يتوجب على فرنسا أن تحضّر نفسها للتعامل مع الجزائر المستقلّة”.
هذه الرؤية حسب بلعيد عبد السلام – دفعت بالقائد العسكري إلى تسريح الضباط الجزائريين في الجيش الفرنسي، بغرض تسهيل التواصل والتفاوض وبناء علاقات جديدة في المستقبل، فهو يعتبر أنه من الصعوبة بمكان، التفاهم أو التعاون مع قادة الثورة المُشبعين بالفكر الوطني التحرري.وأضاف بأن بعض “ضباط فرنسا” لم يلتحقوا بالثورة إلا في عام 1961، أي بعد انطلاق المفاوضات الرسمية مع الحكومة المؤقتة بشأن وقف إطلاق النار وتقرير المصير.
حرب ضروس ضد التبعية لفرنسا
وكشف بلعيد عبد السلام، الملقب بأبي الصناعة الجزائرية، في مذكراته بعنوان “وقائع وتأملات حول مواضيع، حول ماض ليس ببعيد”، أن “الجزائر كان عليها أن تخوض حربا لتحرير القطاع من التبعية إلى فرنسا، وتغير نظام المعايير في ميدان المناقصات، وفق المعايير العالمية، حيث بقيت الجزائر إلى وقت قريب بعد الاستقلال تعمل وفق معايير “أفنور” بخصوص المناقصات، التي كان نادرا ما يستجيب لها الشركاء خارج فرنسا، وظلت عائقا في وجه تنويع الشراكة مع أطراف خارج فرنسا، إضافة إلى إجبار المتعاملين على تقديم عروضهم باللغة الفرنسية، وكذا التأثير الذي كان يمارسه الفرنسيون على المسؤولين والإطارات الجزائرية لإبعاد منافسيهم عن السوق الجزائرية”.
ويذكر بلعيد عبد السلام أنه “طلب من المؤسسات ضرورة تغيير نظامها ومطابقة المعايير العالمية المعمول بها حتى في بلدان الاتحاد الأوربي، وهذا قبل خلق ديوان خاص ووضع مصلحة خاصة بمتابعة المشكل، وإيجاد نظام خاص بنا لاستقلالية الصناعة الجزائرية، والتخلص من ثقل القيود الفرنسية التي أبقت الجزائر طبقا لاتفاق 1949 ضمن دائرة النفوذ الفرنسي، عن طريق عقود الامتياز التي كان على الجزائر خوض حرب لإبطالها، وتحرير القطاع من التوابع الذين تركتهم فرنسا لتسيير شؤونها هنا، وعادة ما استطاعوا خلق ثروات طائلة من استغلال هذه العقود”.
وأرجع عبد السلام جزءا من فشل مشروع الثورة الزراعية إلى كون المعارضين له، قد عملوا على تحويل الأراضي لصالح أشخاص في حزب جبهة التحرير الوطني.وكان الراحل بلعيد عبد السلام من أشد المدافعين عن سياسة التصنيع للرئيس الراحل هواري بومدين، وقال في مذكراته إن الصحافة الفرنسية التي انتقدت السياسة التصنيعية التي انتهجها بومدين، وعزت انفجار أكتوبر إلى فشل تلك السياسة الصناعية التي وضعت الصناعات الثقيلة على رأس الأولويات، وهي التي استهلكت الكثير من الموارد ولم تخلق في المقابل مناصب شغل، مع انتقاد استنساخ النموذج السوفياتي، يقول عبد السلام بلعيد، إن تلك التحليلات الخاطئة كانت نابعة أساسا من رغبة فرنسا في إبقاء الجزائر في دائرة نفوذها، وجعلها سوقا أبديّا لها، ولاستنزاف المواد الأولية، مشيرا إلى أن الأوساط الفرنسية قابلت باستياء قرار الجزائر بإطلاق الصناعات البتروكيماوية.
الجشع يفسد إنجاز مصنع “رونو الجزائر”
ويكشف بلعيد عبد السلام في أحد شهاداته، أنّ الجزائر باشرت في السبعينات من القرن الفائت مفاوضات متقدمة مع الفرنسيين، أوشكت على التتويج بتشييد مصنع سيارات لعلامة “رونو” في منطقة وادي رهيو بولاية غليزان، بعد الاتفاق مع الرئيس المدير العام للشركة الأمّ، موضّحا أن نسبة الإدماج قدّرت حينها في حدود 60 بالمائة، وأن الروتوشات الأخيرة للمشروع المشترك تمّ التفاوض بشأنها خلال زيارة جيسكار ديستان عام 1974، قبل أن تتعثّر المفاوضات، بسبب رفض الفرنسيين تخفيض نسبة الفوائد المترتبة على قرض التمويل الذي تعهّدوا به، وأيضا عدم موافقتهم على تمديد آجال التسديد المحددة بـ20 سنة، ما جعل الفنيين الجزائريين يقدّرون أن تكلفة السيارة المنتجة محليا ستكون أغلى من نظيرتها المستوردة.
وأشار بلعيد عبد السلام إلى أنّ وضعية المشروع قد تعقّدت أكثر، على خلفية التوتر السياسي مع فرنسا، بسبب دعمها للمغرب في نزاعها مع الصحراويين الذي برز منتصف السبعينات.
وصفة متجددة للخروج من الأزمات المالية
في حوار صحفي سنة 2016، يقول الراحل عبد السلام بلعيد، الذي اشتهر بنظرية “اقتصاد الحرب” بأن هذه الأخيرة هي “مفتاح الخروج من الشدائد وشحّ الموارد المالية، على أساس عدم استيراد أي شيء لا نحتاجه بصفة ضرورية، بل نتوجه لاستهلاك المنتوج المحليّ، ونعود لإحياء وبعث الصناعات الوطنية، لتغطية الحاجيات العامة، عن طريق الموارد الداخلية واستعمال كل الإمكانات الذاتية، لتفادي الاستيراد بالعملة الصعبة، هذا على المدى القريب، أما على المدى المتوسط والبعيد، فتقوم النظرية على تأهيل الموارد البشرية للتكفل بإدارة شؤون الدولة”.وشدد الفقيد _ آنذاك – أن هذه النظرية “تبقى هي المخرج الأمثل للأزمة، لأنّ المؤسسات الدولية لا تقرض المحتاجين بغرض الاستهلاك، بل لتمويل المشاريع الإنتاجية، التي تضمن المردودية واستعادة الأموال المقرضة”.ويؤكد الفقيد على ضرورة تغيير السلوكات الاستهلاكية للمواطنين رغم صعوبة العودة إلى الوراء، مشيرا أنه واجه نفس المشكلة سابقا وتعليقًا على مقاربات بعض الخبراء الذين يرافعون للاستدانة الخارجية، بمبرّر تحريك الاستثمارات والاقتصاد، بدل التفكير السلبي في كبح الاستهلاك، ردّ بلعيد بالقول “هذا الخطاب سمعناه منذ 1962، لكن المشكلة هي في التنفيذ على أرض الواقع، وإلى أن نصل إلى أداء فعال، من الواجب التسيير وفق الإمكانات المالية للبلاد، عوض تكبيلها بالديون الخارجية”.










