إن كل تلك الأعمال صُرفت من أجل عافية الدنيا، التي هي عافية ناقصة وقصيرة ويسيرة ومظنونة، فأين موقع البشرية اليوم من عافية الآخرة، التي هي عافية تامة وخالدة وكاملة ومتيقنة؟ وأين أمارات استعداد الإنسان لعافية الآخرة التي يسلم فيها جسده من النار، وغضب الجبار، ويتنعم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدًا فيها أبد الآباد؟ فهل بذلت أيها الإنسان من مالك ووقتك وجهدك من أجل عافية الآخرة، كما بذلت اليوم من أجل عافية الدنيا؟ وهل انقطعت عن مواطن العصيان من أجل عافية الآخرة، كما انقطعت عنها من أجل عافية الدنيا؟ وهل حلَّ في قلبك من الخوف على فوات عافية الآخرة، كما حل فيه من الخشية على ذهاب عافية الدنيا؟ وهل حرصت على سلامة أهلك وأولادك من النار، كما حرصت اليوم على سلامتهم من كورونا؟
في ظل هذا الحجر الصحي المفروض يتذكر الإنسان وهو حبيس بيته ذكريات جميلة عن أيام العافية قبل مجيء هذا الفيروس:
– فيتذكر تلك اللحظات السعيدة التي كان يلتقي فيها بأحبابه وأصحابه، بلا مخاوف ولا فواصل حدودية، فيتصافحون ويتعانقون، وابتسامتهم تملأ المكان، والسعادة تعم الجنان، واليوم أصبح الأمر غير ذلك.
– ويتذكر أيضًا تلك الساعات الرائعة التي كان يقضيها في التنقل من مكان إلى آخر؛ حيث رمى به الهوى، وأحبته النفس، وتسوقه الذكرى في أيام عزلته هذه إلى استحضار راحة نفسه وهي تتنزه في المنتزهات الفاتنة للأبصار، ويخالط الناس فيها ويجالسهم بأمان.
– ويتذكر أنه كان في ذلك العيش السعيد، واليقين الكاذب يخدعه بأنه ستدوم عليه هذه الحال، ولن تتبدل، فما كان يدور في خلده بأنه سيصير إلى ما صار إليه اليوم من العزلة، والانقطاع عن كثير من اللذة.
واليوم في ظل الحجر الصحي أصبح كل ذلك من الماضي الجميل، الذي لم تبقَ منه إلا الذكريات الحزينة، فربما يتذكر المرء تلك الملذات النفسية والجسدية والحزن يعصر قلبه، ويضيق عليه مكانه في البيت؛ وفي هذه الوقفة نقول: سيأتي على الإنسان المعرض عن ربه زمن الآخرة الذي سيتذكر فيه دنياه الفائتة، ولذات غفلته السالفة، لكنه تذكر يورثه الحسرة الدائمة، من غير أمل في العودة إلى مسرات ماضيه، أما حجر اليوم فسيبقى أمدًا وينتهي، ويعود الناس إلى حياتهم الطبيعية.