تمر، اليوم، 72 سنة على الذكرى الأليمة لمجازر الثامن ماي من عام 1945، التي تعرض لها الجزائريون لا لشيء سوى لأنهم خرجوا كغيرهم من الأوروبيين عبر كل أرجاء العالم للمشاركة في الاحتفال بالانتصار على
النازية، وتحرير فرنسا المحتلة من الاحتلال الألماني رافعين لافتات كتب عليها ”تحيا الجزائر المستقلة” لتكون نهايتها مجازر دموية، خلفت أكثر من 45 ألف شهيد، سقطوا برصاص قوات الاحتلال الفرنسي في شوارع سطيف وفي أفران الجير بهليوبوليس، بقالمة وبأعماق أخاديد خراطة وقسنطينة وقرى عديدة بشرق البلاد وغربها ووسطها.
مظاهرات تروي حكاية من أعظم حكايا الثورات
هو تاريخ ينحني له التاريخ، وتسجله الذاكرة بكثير من الفخر والاعتزاز… هو فخر الأوراسيين الذين رفعوا يومها راية بلدهم على مقابر 45 ألف شهيد أبادتهم آلة المستعمر ببشاعة حين خرجوا يومها في عدد من ولايات شرق الجزائر في مسيرة سلمية للمطالبة بحريتهم ليشهد العالم واحدة من أعظم حكايا الثورات، التي نتوقف اليوم وككل سنة لنتذكر ونعتبر، خرج الجزائريون في مظاهرات 8 ماي 1945 ليعبروا عن فرحتهم بانتصار الحلفاء، وهو انتصار الديمقراطية الدكتاتورية، وعبروا عن شعورهم بالفرحة وطالبوا باستقلال بلادهم وتطبيق مبادئ الحرية التي رفع شعارها الحلفاء طيلة الحرب العالمية الثانية، وكانت مظاهرات عبر الوطن كله وتكثفت في مدينة سطيف التي هي المقر الرئيسي لأحباب البيان والحرية، ونادوا في هذه المظاهرات بحرية الجزائر واستقلالها. مظاهرات 8 ماي كانت نابعة من عمق التفكير الجزائري المؤمن بضرورة الحياة الكريمة والعدل والمساواة، مسيرات ومظاهرات شملت تقريبا كل أرجاء الوطن.. لكن أبرزها كان في سطيف وقالمة وخراطة.
المنعرج الحاسم في مسار الكفاح التحرري
عقب انتصار الحلفاء على دول المحور وإعلان انهزام النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، خرج الشعب الجزائري إلى الشوارع، للتعبير عن فرحتهم إزاء انتصار فرنسا ومنها أرادوا اغتنام فرصة هذا الاحتفال لتوجيه رسالة إلى الاستعمار، مفادها أن استقلال الجزائر أصبح مسألة وقت كون انتصار الحلفاء كان يعني خروج فرنسا من الأرض التي احتلتها سنة 1830، لكن ما حدث هو العكس تماما، حيث قابلت الآلة العسكرية الفرنسية تلك المظاهرات السلمية بالتقتيل ووجهت قوات الشرطة وحتى “الكولون” نيران أسلحتهم المختلفة صوب المواطنين العزل وراحوا يقتلون كل من رفع شعار الحرية للجزائر، وكانت الحصيلة أن سقط في ميدان الشرف 45 ألف مدني. ولم تزد تلك الأحداث سوى من عزيمة الكفاح الذي تسلح به الشعب الجزائري، وكانت تلك المجازر بمثابة “بداية النهاية” للتواجد الاستعماري الفرنسي في الجزائر وشرع في التأسيس لنواة كفاح مسلح تطورت إلى ثورة اهتزت لها أركان الاستعمار الفرنسي وراح يخرج كل آلاته العسكرية والدعائية قصد النيل من عزيمة تلك الشرارة التي انطلقت بغير رجعة وتوجت باستقلال كان ثمنه مليون ونصف مليون شهيد ودولة محطمة استوجب رصّ الصفوف من أجل بنائها، لكن وللأسف ففي ذلك اليوم، قوبل الجزائريون بقمع من طرف الأوروبيين وتحولت المظاهرة السلمية إلى مجزرة حقيقية يندى لها جبين الإنسانية، قصد زرع الفزع والهلع في النفوس وحل الأحزاب المناهضة لهم ولسياستهم الهادفة إلى الاستئثار بالسلطة والنفوذ والثروة.
وبالفعل فقد قامت السلطات الفرنسية بحل ”حزب الشعب”و”أحباب البيان والحرية” وألقت القبض على فرحات عباس، وحوالي 4560 مناضل منهم 3096 مناضلا بولاية قسنطينة وحدها و505 بولاية وهران و359 في ولاية الجزائر. وقد استشهد في مجازر الثامن ماي وما بعدها حوالي 45 ألف جزائري ولقي 104 مستوطن أوروبي حتفه في المواجهات بين الجزائريين والمسلمين، حيث طالب الأوروبيون الحكومة الفرنسية بإعدام المتسببين في أحداث الـ 08 ماي 1945 ومنهم فرحات عباس.
وفي هذا الصدد، قد تضاربت الآراء حول حقيقة أرقام ضحايا هذه المجازر، فالحزب الشيوعي الفرنسي يذكر عدد 35 ألف ضحية، ويقدرها القنصل الأمريكي بالجزائر سنة 1946 بنحو عشرين ألف ضحية، وتذكر إحصائيات 1953 نحو ثلاثين ألف ضحية، لكن دون ذكر المصدر الذي أخذ منها.
ونفس الأمر بالنسبة للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي تحدث عن سقوط ما يقارب 20 ألف ضحية وربما أكثر، فيما يذكر حزب أنصار الحريات الديمقراطية لمصالي الحاج 45 ألف شهيد وهو الرقم الذي ما زال يتردد إلى يومنا هذا. وتظل هذه الأرقام متضاربة لغاية الكشف عن وثائق خاصة.
يوم اختنقت قالمة برائحة جثث الأبرياء
يروي بعض من شارك في مسيرة ذلك اليوم الأسود من شهر ماي لعام 1945، بأن تعليمات مسؤولي النظام السري لحزب الشعب كانت ”أن تتم المسيرة ولو استشهد الجميع”، لكن توقيت انطلاق المسيرة تأخر إلى السادسة مساء، الساعة التي انطلقت فيها آلة التقتيل والتنكيل.
الساعة كانت تشير إلى السادسة مساء، ينطلق الموكب من الكرمات بنحو 2000 مشارك، وهم يرددون نشيد ”من جبالنا”، ويبدأ العدد في التزايد بالوصول إلى نهج عنونة، وسط زغاريد النسوة، وبعدما عبر المشاركون في المسيرة، التي رفعت فيها الراية الجزائرية ورايات كل من إنجلترا وأمريكا وحتى العلم الفرنسي، شوارع مجاز عمار (ابن باديس اليوم) والقديس أوغستين، (عديم اللقب عبد الكريم حاليا) إلى غاية نهج 8 ماي.
وجد السائرون أنفسهم وجها لوجه مع شرطة الاحتلال ودركه يتقدمهم آشياري، الذي رفع صوته في وجه من كان في الطليعة من المسؤولين: ”إلى أين أنتم ذاهبون؟”، فيجيبونه: ”لوضع باقة من الزهور على النصب التذكاري، الذي عوض بعدها بنصب الرئيس الراحل هواري بومدين بساحة 19 مارس وسط قالمة وبمحاذاة مقر المجلس الشعبي الولائي”، ويرد آشياري ”لن تضعوها ولتوقفوا المسيرة”.
يزداد تدافع الحشود دون تراجع، ويلح أحد الفرنسيين، الذي عرف باسم فوكو، على نائب عامل العمالة بالسؤال:”هل فرنسا موجودة أم لا؟”، ويجيب آشياري: ”نعم فرنسا موجودة”.
وفي لحظة التلبّس بالجرم، يطلق آشياري عيارات الإيذان بالهجوم على المتظاهرين، لتشرع عناصر الدرك والشرطة بالرمي، فيسقط بومعزة عبد الله، المدعو حامد، شهيدا، وصالح كتفي شهيدا ثانيا، بينما يصاب يلس عبد الله، الذي لا يزال على قيد الحياة، في رجله اليمنى، قبل أن ينقل إلى المستشفى، وتتعالى الطلقات الهمجية في كل أرجاء المدينة، لتعلن رصاصات الغدر انطلاقة ليلة سوداء، تواصل بركان الدماء اعتبارا من ذلك اليوم الأسود، فمن التوقيفات العشوائية، إلى المطاردات خارج المدينة، إلى القصف بالقنابل للقرى والمداشر، إلى إعدام الأبرياء..
تختلف الرواية والنتيجة واحدة
إن الجهة المسؤولة عن المظاهرات ما زالت لحد اليوم محل جدل بين من يقول بأن حزب الشعب الجزائري هو الذي دعا إلى تلك المظاهرات، وبين من يقول بأن تلك المظاهرات دعي لها من طرف حزب حركة أحباب البيان الجزائري، وقائل آخر يؤكد على أن الإدارة الاستعمارية هي التي سعت لتنظيم المظاهرات قصد إحباك مؤامرتها ضد الشعب الجزائري. ومما يزيد من تعقيد هذا الجدل هو ما كتبه المناضل فرحات عباس شخصيا، بصفته رئيس حركة أحباب البيان في تلك الفترة، قائلا في أفريل من سنة 1945 ”رقي إلى “لستراد كاربون” الذي كان حاكما ببلدية مختلطة إلى درجة عامل عمالة (والي) وقد أخبر الدكتور سعدان (كان نائبا عماليا على مستوى الولاية) بأن حوادث ستقع وأن حزبا كبيرا سيحل.
كما أن النائب ”أبو” الاستعماري الكبير طالما ردد أمام الناس أن تشويشا سينفجر ويتحتم على ديغول التراجع عن قرار السابع مارس 1944 الذي كان المستعمر من أكبر المعارضين له. وهنا يتبين بأن هناك إصرار وترصد في وسط المستوطنين للإقدام على أفعال وارتكاب مجازر ضد المسلمين تظهر مدى موافقة المستوطنين الأوروبيين في الجزائر على السياسة الإصلاحية التي وعدت حكومتهم المسلمين بها فيما يعرف بمرسوم 07 مارس 1944.
وكان لهذه المظاهرات انعكاساتها على الدول المجاورة وردود أفعال من الدول العربية، حيث دعت الجامعة العربية يومي 15 و 24 فيفري 1947 إلى اجتماع لدراسة الأوضاع السياسية في شمال إفريقيا، وأعلنت عن مساعدتها للبلدان المغربية، وطالبته بإلغاء نظام المحميتين في تونس والمغرب وعدم الاعتراف بالحقوق الفرنسية في الجزائر، وإعلان استقلال هذين البلدين والجلاء الكامل للقوات الأجنبية من هذه البلدان وكذا رفض المشاركة في الاتحاد الفرنسي بأي شكل كان. وقامت الجامعة بتقديم لائحة إلى الأمم المتحدة تذكرها بالجرائم الفرنسية 40 ألف قتيل جزائري، وجرح أكثر من 200 ألف آخرين خلال ماي 1945.
مجازر بشعة يستحيل نسيانها
كان رد فرنسا على المظاهرات السلمية التي نظمها الجزائريون في 8 ماي 1945، بأسلوب القمع والتقتيل الجماعي واستعملوا فيه القوات البرية والجوية والبحرية، ودمروا قرى ومداشر ودواوير بأكملها. ونتج عن هذه المجازر قتل أكثر من 45000 جزائري أولهم الشاب بوزيد شعال 22 سنة، دمرت قراهم وأملاكهم عن آخرها. ووصلت الإحصاءات الأجنبية إلى تقديرات أفظع بين 50000 و70000 قتيل من المدنيين العزل فكانت مجزرة بشعة على يد الفرنسيين الذين كثيرا ما تباهوا بالتحضر والحرية والإنسانية.
72 سنة تمر إذن على مجازر الاستعمار الفرنسي في كل من قالمة وخراطة وسطيف وعدة مناطق من الوطن، وفي كل ذكرى تعود التساؤلات عن مدى استعداد فرنسا للاعتذار عن جرائمها التي يبقى التاريخ شاهدا عليها.
رغم مرور سنين على هذه الأحداث الأليمة، إلا أن التاريخ يبقى يحتفظ لفرنسا بتلك “الصور السوداء من تواجدها في الجزائر” فرغم محاولتها إدارة ظهرها للتاريخ وللمؤرخين، إلا أن ذلك لم ينفعها في شيء، بل وأكثر من ذلك، فمن منطلق صدق التاريخ الذي “لا يرحم” فقد “افتضحت كل مزاعمها السابقة” وأصبحت تلك الحقبة السوداء وصمة عار على جبين دولة شعارها الحرية والعدالة والأخوة.
حساسية تطبع العلاقات
واليوم يبلغ هذا التاريخ مرحلة تشد إليها الأنظار وتجلب إليها المتتبعين بالنظر إلى ما يثار بخصوص العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا وطابع الحساسية الذي يعتريها بسبب هذه الحقبة.
وتسعى فرنسا الرسمية اليوم إلى عدم تحمل مسؤولية فرنسا الاستعمارية التي اقترفت مجازر في حق أبرياء في الجزائر ولم تراع مشاعر تلك الشعوب، ووصل بها الحد إلى إصدار قانون في 23 فيفري 2005 يمجد الاستعمار، ما جعل الشعب الجزائري يعارض مثل هذه الخطوات “التي تحمل الطابع السياسي”، وتبع السخط الشعبي الجزائري على هذه الخطوة تذمر في أوساط المؤرخين الفرنسيين الذين رفضوا إسناد كتابة التاريخ للسياسيين على حساب المؤرخين، وأدى هذا الضغط إلى تراجع “اليمين الفرنسي” الذي بادر بهذا القانون عن بعض مواقفه حيث قام بمراجعة بعض مواده.