تعليمات رئاسية خلال آخر مجلس وزراء لمضاعفة الجهود واستكمال المشروع

مصفاة حاسي مسعود.. قلب جديد للطاقة

مصفاة حاسي مسعود.. قلب جديد للطاقة
  • مشروع ضخم يعود إلى الواجهة بثقل استراتيجي جديد

  • قدرات إنتاجية تضع الجزائر على أعتاب اكتفاء شامل

  • أرقام تكشف تحولا هيكليا في سوق الوقود

في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 30 ديسمبر 2025، أعاد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، مشروع مصفاة التكرير الجديدة بحاسي مسعود إلى صدارة الأولويات الوطنية، بتشديده على ضرورة مضاعفة الجهود لاستكمال هذا الورش الاستراتيجي الذي يُعدّ اليوم أحد أكبر رهانات الجزائر في مجال تثمين المحروقات. فالمصفاة، التي ستعالج 5 ملايين طن سنويا وتنتج مشتقات “يورو 5”، تعد حلقة أساسية في مسار الانتقال من تصدير الخام إلى صناعة القيمة المضافة، وضمان الأمن الطاقوي، وتلبية الطلب الوطني، وفتح آفاق تصدير واسعة نحو الأسواق الإقليمية.

يستعيد مشروع مصفاة حاسي مسعود زخمه مع توجيهات رئيس الجمهورية الأخيرة، في عودة تؤكد أن هذا الورش ليس تفصيلاً تقنياً بقدر ما هو جزء من رؤية اقتصادية شاملة تُعيد ترتيب سلم الأولويات داخل قطاع الطاقة. فالمصفاة التي وضع حجر أساسها قبل سنتين، وعادت تفاصيلها إلى طاولة مجلس الوزراء، تجسد اليوم انتقال الجزائر من التفكير في قدرات الإنتاج الخام إلى بناء منظومات متكاملة للتكرير، بما يسمح برفع القيمة المضافة وتقليص مستويات التبعية الخارجية. ورغم أن المشروع قطع أشواطا مهمة، إلا أن استعجال الرئيس يبرز حجم الرهان الوطني على تشغيله في آجاله. وما يزيد من أهمية هذا المشروع أنه يأتي بطاقة معالجة تقدّر بـ5 ملايين طن سنوياً، ليكون ثاني أكبر مصفاة في البلاد بعد سكيكدة، ما يمنحه موقعا محوريا في إعادة هيكلة القدرات التكريرية للدولة. فالأرقام تكشف عن منشأة لا تعالج النفط فحسب، بل تعيد توزيع ثقل الصناعة بين الشمال والجنوب، وتضع حاسي مسعود في قلب التحوّل من “منطقة إنتاج” إلى “قطب صناعي” متكامل قادر على استيعاب سلاسل طويلة من القيمة. هذا التحول يمثل جزءا من سياسة اقتصادية واضحة تستهدف الاستفادة القصوى من الموقع الاستراتيجي للجنوب الشرقي. ويقع المشروع في منطقة حوض الحمرَة التي تمثل تاريخيا واحدة من أهم بؤر الإنتاج الطاقوي في الجزائر، لكن تشغيل المصفاة سيضيف بعدا جديدا للمنطقة، إذ يمنحها دورا مزدوجا: تكرير الخام وتزويد الشبكات الصناعية الداخلية. ومن هنا، يشكل المشروع خطوة نوعية في اتجاه توزيع متوازن للمنشآت الكبرى، وخلق ديناميكية اقتصادية جديدة تتجاوز الطابع التقليدي للأنشطة البترولية. وتبرز هذه الأهمية بشكل أكبر حين نعلم أن المصفاة ستغذي منشآت صناعية حيوية في الجنوب والشمال على حدّ سواء، بما يعزز مرونة سلاسل الإمداد الوطنية. ويمثّل تشغيل المصفاة أيضا تحولا في علاقة الجزائر بسوق الوقود، فعلى الرغم من التطور الحاصل في القدرات الإنتاجية، ظلت البلاد رهينة لمستوى التكرير الداخلي ولفجوة العرض والطلب. أما اليوم، فإن دخول مصفاة بهذا الحجم سيقلّص تدريجيا الاعتماد على الاستيراد ويمنح السوق الوطنية قدرة على الاستجابة السريعة لحاجياتها، مع خلق فائض قابل للتصدير. ومن ثَمّ، يصبح مشروع المصفاة حجر زاوية في التحول الذي تسعى الجزائر إلى ترسيخه في قطاعها الطاقوي: من إنتاج خام قابل للتقلب إلى صناعة مستقرة مدعّمة بإمكانات تكرير تضاهي المقاييس الدولية.

 

قدرات إنتاجية ضخمة.. أرقام تكشف تحولا هيكليا في سوق الوقود

تكشف الطاقات الإنتاجية المخططة لمصفاة حاسي مسعود عن حجم التحول الذي تستهدفه الجزائر في مجال التكرير، إذ ستنتج المصفاة سبعة مشتقات أساسية بمعايير “يورو 5”، أبرزها البنزين بنوعيه، والديزل، والكيروسين، إضافة إلى البروبان والبوتان والزفت. هذه التركيبة الإنتاجية تجسّد انتقالا نوعيا من التركيز على المنتجات التقليدية إلى توفير طيف واسع من المشتقات عالية القيمة. ومع قدرة إنتاجية تبلغ 35.5 مليون برميل سنويا، تبدو المصفاة مصممة لتكون إحدى الدعائم الرئيسة في تحقيق التوازن داخل السوق الوطنية ورفع قدرة البلاد على المنافسة خارجيا. وتزداد أهمية هذه الأرقام حين تُقارن بالاحتياجات الفعلية للسوق الوطنية، التي استهلكت خلال سنة 2022 ما يقارب 17.8 مليون طن من المشتقات النفطية، بينها 10.1 ملايين طن من الديزل و3.3 ملايين طن من البنزين. ففي ظل ارتفاع الطلب، كانت الجزائر تُعوّل لسنوات على استيراد جزء من احتياجاتها، وهو وضع تراجع تدريجيا مع توسعة المصافي الحالية. أما دخول مصفاة حاسي مسعود حيز الخدمة، فسيُحدث نقلة نوعية نحو الاكتفاء الذاتي، خصوصا في المنتجات الأكثر استهلاكا. وبذلك تتحول المصفاة من مجرد منشأة إنتاجية إلى أداة استراتيجية لضبط السوق الداخلية. ولا يقتصر أثر المصفاة على تغطية الاستهلاك الوطني فحسب، بل يُتوقع أن تسهم في خلق فائض يُخصص للتصدير، ما يمنح الجزائر فرصة أكبر لاستعادة موقعها ضمن أسواق الوقود الإقليمية. ففي الوقت الذي تعمل فيه الدولة على رفع القدرة الإنتاجية للمازوت إلى 12.5 مليون طن بحلول 2030، تأتي هذه المصفاة لتسدّ جزءا حاسما من الفجوة عبر توازن دقيق بين العرض والطلب المحليين. ومع استمرار تطوير مصفاة سكيكدة، تتجه الجزائر نحو منظومة تكرير متكاملة تتجاوز التقلبات العالمية وتمنح البلاد هامشا اقتصاديا أوسع. ويظهر البعد الاستراتيجي للمصفاة أيضا في قدرتها على إنتاج مشتقات مطابقة لأعلى المعايير البيئية العالمية، ما يفتح الباب أمام أسواق جديدة في البحر المتوسط وإفريقيا. ففي ظل التوجه الدولي نحو منتجات منخفضة الانبعاثات، تصبح مشتقات “يورو 5” خيارا مثاليا للتوسع التجاري. وهكذا يتحول المشروع من ورشة طاقوية إلى منصة تصديرية مستدامة، تضيف للجزائر موردا جديدا يعتمد على التكرير المتطور، لا على بيع الخام فقط، وهو ما ينسجم تماما مع الرؤية الوطنية لتعزيز القيمة المضافة ومكانة الجزائر في الأسواق الدولية.

 

مصفاة 2027.. ورشة ضخمة تتحول إلى قطب صناعي يشغّل الآلاف

ويمتد البعد الاقتصادي لمصفاة حاسي مسعود إلى ما يتجاوز إنتاج المشتقات، ليشمل أثرا مباشرا على سوق العمل وعلى النسيج الاقتصادي في الجنوب الشرقي للبلاد. فالمشروع الذي يشغّل أكثر من 10 آلاف عامل خلال مرحلة الإنجاز، ويوفر ألف منصب دائم في مرحلة الاستغلال، يشكّل واحدة من أكبر الورش الصناعية التي عرفتها المنطقة منذ سنوات. هذا الحجم من اليد العاملة لا يؤسس فقط لمصدراً جديداً للدخل المحلي، بل يعيد رسم المشهد الاقتصادي في ولايتي ورقلة وحاسي مسعود، عبر خلق حركية واسعة تشمل السكن، النقل، الخدمات واللوجستيك. وهكذا تتحول المصفاة نفسها إلى محرك تنموي يجذب استثمارات مرافقة تدور في فلك الصناعات الطاقوية. ويتخذ الأثر الاجتماعي والاقتصادي للمصفاة بعدا إضافيا بالنظر إلى طبيعة الوظائف التي تستحدثها، إذ تشمل تخصصات عالية الدقة في الهندسة، الصيانة، الكيمياء الصناعية، الأمن الصناعي، إدارة الجودة، ومخابر التحاليل. هذه المجالات تتطلب تكويناً نوعياً، وهو ما جعل المشروع يرتبط بديناميكية موازية في مؤسسات التكوين والجامعات القريبة. فتشغيل المصفاة في 2027 سيكون اختبارا عمليا لنجاعة منظومة التكوين في تزويد سوق العمل بكفاءات وطنية بدل الاعتماد على الخبرة الأجنبية، ما يعكس انتقالا تدريجيا نحو احترافية أكبر في تسيير المنشآت الطاقوية. وتسهم المصفاة أيضا في إعادة تشكيل معالم المنطقة الصناعية بحاسي مسعود، إذ لا ينحصر دورها في التكرير فقط، بل في تغذية المنشآت المحيطة بها بمختلف المشتقات ذات الاستخدام الصناعي. فوجود مصفاة حديثة في قلب أكبر حقل نفطي في الجزائر يمنح الجنوب بنية تحتية قادرة على استيعاب مشاريع تحويلية مكمّلة، على غرار مصانع الزيوت والمزلقات والكيميائيات الخفيفة. ومن شأن هذا التحول أن يعزز تموضع المنطقة كقطب صناعي متكامل، لا مجرد مركز لإنتاج النفط الخام، بما ينسجم مع التوجه الاستراتيجي للدولة نحو تثمين الموارد وتقليل تصدير الخام بأقل مستويات القيمة. ويظهر الامتداد الاقتصادي لهذا المشروع بوضوح من خلال تأثيره غير المباشر على القطاعات المساندة، مثل النقل الطرقي، السلاسل اللوجستية، الخدمات التقنية، وحتى المقاولات الصغيرة والمتوسطة العاملة في الصيانة والتركيب. فالمصفاة تخلق ما يشبه “اقتصادا محليا موازيا” يدور حول الصناعات الطاقوية، ويمنح المنطقة ديناميكية جديدة تتجاوز إيقاع السوق التقليدي القائم على أنشطة الاستكشاف والإنتاج. ومن هنا، يصبح مشروع 2027 حدثا اقتصاديا يعيد توزيع الفرص ويؤسس لمرحلة جديدة من التوازن الجهوي والتنمية المستدامة في واحد من أهم الأقطاب الطاقوية بالبلاد.

 

سوناطراك.. من تقليص توقفات الصيانة إلى ضمان تدفق مستمر للمادة الخام

لم تكن إعادة بعث مشروع المصفاة بمعزل عن الإصلاحات التشغيلية داخل سوناطراك، إذ شكّل قرار تقليص “توقفات الصيانة” من 35 يوما إلى 10 أيام إحدى أهم الخطوات التي رفعت جاهزية المنشآت التكريرية القائمة وساهمت في توفير استقرار أكبر للسوق الوطنية. هذا الإجراء الذي كشف عنه الرئيس المدير العام السابق رشيد حشيشي يشكل تحول في فلسفة التسيير نفسها، يقوم على تقليص الفترات غير المنتجة، وضمان أعلى نسب تشغيل ممكنة، ورفع فعالية سلاسل التكرير في مختلف المصافي. ومع عودة ملف مصفاة حاسي مسعود إلى الطاولة، يبدو واضحا أن هذا النهج سيشكّل جزءا أساسيا من نجاح المشروع الجديد. ويكتسب هذا التوجه أهمية خاصة في ظل الارتفاع المتواصل لاحتياجات السوق الوطنية من المشتقات النفطية، ما يجعل انتظام الإمدادات شرطا ضروريا لتفادي أي اختلالات. فاعتماد سياسة صيانة مسبقة ودقيقة يقلل من الاعتماد على حلول ظرفية، ويمنح سوناطراك قدرة أكبر على التحكم في وتيرة الإنتاج. كما يتيح هذا التقليل في أيام التوقف إعادة توزيع الموارد البشرية والتقنية بشكل أفضل، وهو ما سينعكس مباشرة على قدرة الشركة في تزويد المصفاة الجديدة بالكميات اللازمة من المادة الخام دون انقطاع، خصوصا أنها تعتمد على نفط حاسي مسعود عالي الجودة. وتبرز أهمية هذا الجانب أكثر عندما ننظر إلى المشروع من زاوية متكاملة تشمل المنبع والمصبّ. فالمصفاة الجديدة ليست كيانا مستقلا، بل جزء من منظومة إنتاجية ضخمة تحتاج إلى تغذية مستمرة، واستقرار في الإمدادات، وتناغم في سلسلة القيمة. وضمن هذا التصور، يصبح تقليص توقفات الصيانة عاملاً أساسياً في ضمان التشغيل الأمثل للمنشآت، وفي إرساء بيئة متوازنة تسمح بتسويق المشتقات داخليا وخارجيا دون اضطرابات. وهنا تتضح العلاقة العضوية بين تحديث المصافي القديمة وإطلاق المنشآت الجديدة، كمسار واحد يهدف إلى رفع القدرة التكريرية الإجمالية للبلاد. ولا يمكن فصل هذه المقاربة التشغيلية عن الرؤية الاستثمارية الأوسع لسوناطراك، التي تستهدف ضخ 30 مليار دولار بين 2023 و2027 في الاستكشاف والإنتاج والتكرير. فمع دخول مصفاة حاسي مسعود مرحلة الإنجاز المتقدمة، تستعد الجزائر لرفع قدرتها التكريرية إلى 775 ألف برميل يوميا، ما يجعل التحكم في العمليات والصيانة جزءا بنيويا من تأمين هذا الهدف. وبهذا الانتقال السلس بين تحسين الموجود وبناء الجديد، ترسخ سوناطراك نموذجا تشغيليا أكثر مرونة وكفاءة، يواكب التحولات العالمية في أسواق النفط ويمنح الجزائر قدرة أكبر على تثمين مواردها وضمان استدامة أمنها الطاقوي.

 

الأمن الطاقوي.. حين تتحول المصفاة إلى خط دفاع اقتصادي متقدّم

ولا يمكن فهم مشروع مصفاة حاسي مسعود بمعزل عن السياق الأوسع للأمن الطاقوي في الجزائر، إذ تأتي هذه المنشأة كحلقة مركزية في سلسلة طويلة من الإصلاحات الهادفة إلى ضمان تزويد مستقر للسوق الوطنية وتحصين البلاد أمام تقلبات الأسعار والاضطرابات الدولية. فالتكرير أصبح أداة استراتيجية تمنح الجزائر القدرة على التحكم في دورة الوقود من المنبع إلى المستهلك، وتقلل اعتمادها على أي مصادر خارجية قد تتأثر بتحولات السوق. ومن هذا المنظور، يمثّل تشغيل المصفاة الجديدة خطوة متقدمة نحو بناء نظام طاقوي أكثر استقراراً وصلابة. ويتضح هذا البعد الأمني بشكل أكبر عند النظر إلى طبيعة المنتجات التي ستوفرها المصفاة، والتي تشمل البنزين والديزل ووقود الطائرات والكيروسين، وهي مشتقات ضرورية لقطاعات النقل، الصناعة، الطيران، واللوجستيك. فامتلاك قدرة وطنية لإنتاج هذه المواد وفق معايير “يورو 5” يمنح السوق الجزائرية هوامش مرونة أكبر ويخفف الضغط على احتياطات النقد الأجنبي، خاصة في ظل الارتفاع المستمر للاستهلاك الداخلي. كما يتيح هذا التنوع في الإنتاج بناء احتياطي استراتيجي يمكن تعبئته عند الضرورة، ما يضمن استجابة أسرع للمتغيرات الطارئة. ولا يقتصر تأثير المشروع على الداخل فقط، بل يمتد إلى بناء تموقع جديد للجزائر داخل السوق الإقليمية للوقود، خصوصا تجاه الدول الإفريقية التي تزداد حاجتها إلى منتجات مكررة ذات جودة عالية. ففي ظل توجه عالمي نحو تقليل الانبعاثات، تمثل المصفاة بوابة لتوسيع الحضور الجزائري في سوق المشتقات “النظيفة”، ما يمنح البلاد ورقة قوة إضافية في العلاقات الاقتصادية الإقليمية ويعزز من قدرتها على التفاوض داخل أسواق المتوسط وإفريقيا. وهكذا يصبح الأمن الطاقوي عنصراً متداخلاً مع الأمن الاقتصادي والدبلوماسي في آن واحد. ومع توجيهات الرئيس الأخيرة التي شددت على أهمية مضاعفة الجهود لاستكمال المشروع في أجاله، يُفهم أن الدولة تراهن على تحويل المصفاة إلى خط دفاع اقتصادي يمنح البلاد قدرة أكبر على امتصاص الصدمات، سواء تعلق الأمر بتقلبات أسعار النفط أو الأزمات اللوجستية العالمية. وفي هذا المسار، تشكل مصفاة حاسي مسعود نموذجا لما تسعى الجزائر إلى ترسيخه: منظومة طاقوية متكاملة لا تعتمد على بيع الخام فقط، بل على تثمينه وتحويله إلى منتجات ذات قيمة مضافة، بما يعزز السيادة الطاقوية ويهيئ البلاد لمرحلة جديدة من الاستقرار والنمو.

م. ع