عرفت ثورة التحرير الجزائرية محطات بارزة صنفها المؤرخون ضمن الأحداث المفصلية التي صنعت مسارها ومصيرها النهائي، بفعل صداها ونتائجها العسكرية والشعبية والدبلوماسية، ولم يكن نجاح هذه الثورة المجيدة وليد أبناءها في الداخل، بل كانت الجالية الجزائرية من شعب ومنظمات الوقود الذي غذى هذه الثورة وأكسبها صداها الدولي.
17 أكتوبر 1961.. صوت المغتربين الذي عرّى جرائم فرنسا ضد الإنسانية

كانت أحداث 17 أكتوبر 1961، بالعاصمة الفرنسية باريس، التي كان الجزائريون المهاجرون أبطالها، والتي وقعت بالتزامن مع “مفاوضات إيفيان” لاسترجاع السيادة الوطنية. ومهدت لها تطورات مترابطة، مرحلة جد مفصلية وهامة أبرزت جهود الجزائرين في قلب ديار المستعمر من أجل إسماع صوت الجزائريين في الخارج.
إذ قامت أجهزة الأمن الفرنسي شهر سبتمبر 1961 بتوقيف وطرد مئات الجزائريين واعتقال آخرين بمركز “فانسان”، بحسب المؤرخ عبد القادر خليفي، غير أن مسؤولي الثورة في الخارج لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تلك الإجراءات، حيث اجتمعت اللجنة الفيدرالية لجبهة التحرير الوطني وأجمعت على حتمية مواجهة التعليمات العنصرية وكسرها. وقررت اللجنة خروج مظاهرات شعبية للمهاجرين خلال ليلتين متتاليتين بعد الساعة الثامنة مساء بكل هدوء ونظام في الطرق الرئيسية لباريس. وخرج يومها نحو 80 ألف مغترب جزائري في مظاهرات سلمية ضخمة للرد على تضييق السلطات الفرنسية، وللتعبير عن مساندتهم المطلقة لجبهة التحرير ومطالبها في الحرية والاستقلال. في حين ردت الشرطة الفرنسية من جهتها بالقمع الشديد والقتل والتعذيب والرمي من جسور نهر السين الشهير، حتى طفت الجثث على مساحة المكان. وتم إحصاء 200 شهيد و2300 جريح، منهم من نقل إلى التراب الجزائري على متن باخرة خاصة لهذا الغرض، ليتم وضعهم في المحتشدات، حيث اتبع الاحتلال الفرنسي سياسة تجميع السكان في ما يشبه المعتقلات الجماعية لمنع الثوار من التواصل مع الشعب. واعترف الرئيس فرانسوا هولاند عام 2012 بالقمع الدموي للمتظاهرين، كما غرد إيمانويل ماكرون عام 2018 على تويتر بأن “17 أكتوبر 1961 كان يومًا من القمع العنيف، وأن الجمهورية الفرنسية مطالبة بأن تواجه الحقائق حول مجازر الجزائريين بباريس”. وتحتفل الجزائر رسميا وشعبيا كل عام بالأحداث المأساوية تحت عنوان “اليوم الوطني للهجرة”، واقترح بنجامان ستورا على رئيسه ماكرون -ضمن ورقة الذاكرة- مواصلة الاحتفال الفرنسي رمزيا لتخليد وقائعها. وكان 17 أكتوبر يوما للقمع العنيف للمتظاهرين الجزائريين الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والاستقلال بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث سقط 200 شهيد و2300 جريح.
الثورة الجزائرية.. صوت شعب احتضنه الوطن العربي

اندلعت الثورة بقيادة جبهة التحرير الوطني، واحتضنها الوطن العربي ودعمها، بالرجال والسلاح والمال، إضافة للمواقف الدبلوماسية العربية في التجمعات الدولية حينها، معبّرة عن وحدة الموقف العربي دعمًا وإسنادًا لثورة الجزائريين ضد المحتل الذي اغتصب الأرض طيلة 130 عاما.
ومثلت تونس، طيلة سنوات الثورة الممتدة على 8 سنوات، قاعدة خلفية للثورة الجزائرية، إذ احتضنت قيادات الثورة، ووفّرت الإمداد بالمال والسلاح ناهيك عن الرجال الذين انخرطوا في العمليات المسلحة داخل التراب الجزائري ضد القوات الفرنسية. لقد كانت الحرب بين الجزائريين والفرنسيين كرّا وفرّا، وانطلاقا من التقييم المعمّق لمرحلة الثورات الشعبية، دخلت المواجهة في المحطة الثانية، وهي مرحلة لملمة وتوحيد الصفوف وإعداد الاستراتيجية وخطة طريق، لمواجهة مشروع الاحتلال الفرنسي، بنشر الوعي والمعرفة والتعليم والتثقيف، وتأسيس المدارس والجمعيات والصحف، وإرسال التلاميذ والطلبة الجزائريين، إلى كل من مدارس الزوايا والطرق الصوفية الموجودة بالجزائر وتونس والمغرب، وإلى جامع الزيتونة المعمور الذي انتسب إليه أغلب الطلبة ابتداء من سنة 1876، وجامع القرويين بفاس، وجامع الأزهر بمصر. ولقد انطلقت مرحلة المقاومة السياسية والثقافية بعد الحرب العالمية الأولى، برجوع الطلبة بالإجازات والشهائد متعددة الاختصاصات من كل من فرنسا وتونس والمغرب ومصر واستقرارهم بالمدن الجزائرية، فتأسّست العديد من المدارس الخاصة والجمعيات والأحزاب والجرائد والنوادي، ونشط أئمة المساجد، متخذين من الجوامع والمساجد مركزا ومنطلقا لتعليم والتثقيف ونشر الوعي والمعرفة، وقد لعب كل من الشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي وزملائهم بعد تخرجهم من الزيتونة وحصولهم على شهائد، دورا محوريا بمؤازرة العلماء الجزائريين. وهذا الحراك والنشاط الحزبي والجمعوي الجزائري تطور ليصبح مغاربيا، وقد ساهمت فيه الجالية المغاربية، وبالخصوص الطلبة الجزائريين والتونسيين والمغاربة الدارسين في فرنسا، بتشكيل حزب نجم شمال إفريقيا سنة 1927، لينتقل الحراك المغاربي السياسي بعد الحرب العالمية الثانية إلى المشرق العربي مصر والعراق وسوريا، وازداد التنسيق بين الحركات الوطنية الجزائرية التونسية والمغربية.
الدول الشقيقة أثناء ثورة التحرير

ومنذ اندلاع الكفاح المسلح في الجزائر، اعترفت جميع الدول العربية الشقيقة بجبهة التحرير الوطني ممثلا للشعب الجزائري الذي يكافح من أجل استعادة استقلاله، وكانت المغرب وتونس وليبيا، الجيران المباشرين للجزائر، هم نقاط الارتكاز الأساسية الأولى للدعم والتضامن المتوقعين.
وسرعان ما وجدت جبهة التحرير الوطني دعما قويا في مصر إذ حافظ الرئيس جمال عبد الناصر على علاقات وثيقة مع أعضاء المكتب العربي لتحرير شمال إفريقيا الذي تم إنشاؤه بمبادرته في القاهرة عام 1952. وبعد مصر، حذت حذوها الدول العربية في الشرق الأدنى والأوسط، أولت السودان وسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية والعراق واليمن اهتماما كبيرا لكفاح الشعب الجزائري، الذي اعتبرته جزءا من نضال الأمة العربية بأسرها من أجل الحرية والعدالة والكرامة. هذه المساعدات وهذا التضامن هو الذي سنتعرّض له في الأسطر التالية.
مكاتب جبهة التحرير الوطني في الخارج.. أصوات لإقناع العالم بعدالة القضية

كانت مكاتب جبهة التحرير الوطني في الخارج التي انتشرت في مختلف دول العالم بمثابة الخلايا التي ساهمت في إسماع صوت الثورة الجزائرية في الخارج.
وأدت هذه المكاتب إلى تدويل القضية الجزائرية، حيث شكلت الرد القوي على الاستعمار في أنه لا يمكن إدماج أي شعب مع شعب آخر إلا بموافقته، كما أنه لا يمكن إلحاق بلد بآخر بمقتضى مرسوم، وفق تعبير المؤرخة ضيف الله. وقد بلغ عدد المكاتب الخارجية لوفد جبهة التحرير الوطني في الخارج ثم الحكومة المؤقتة، 18 مكتبًا لدى الدول العربية وبعض الدول الإفريقية والآسيوية، وعلى مستوى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وذلك في شهر ديسمبر 1959، ولم تكتف هذه المكاتب وممثلي الثورة في الخارج بالتمثيل السياسي بل تعدّاه إلى عقد الندوات والمحاضرات في المعاهد والجامعات وغيرها، واغتنام أي فرصة أو نشاط آخر للتعريف بقضية الجزائر، وكسب مزيد من الأنصار سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى الرأي العام وكانت الانطلاقة بدعم من حلفاء الثورة الطبيعيين الأقطار العربية وبعض البلدان الإسلامية والعمل على تنظيم الجالية الجزائرية في الخارج لدعم الثورة مادّيا ومعنويًا، وإنشاء شبكات الدعم لتزويد الثورة بالمال والسلاح.
مرتبات المغتربين لدعم الثورة

يوضح الدكتور عمار بوحوش مؤرخ وأستاذ جامعي في كتابه بعنوان: “التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية 1962″، بأن النقطة التي ينبغي التركيز عليها، هي أن المهاجرين الجزائريين في أوروبا قد كانوا يشتغلون ويحصلون على مرتبات بانتظام، وذلك ما كان من السهل عليهم أن يدفعوا جزءا من مرتباتهم بسخاء إلى الثورة الجزائرية، مضيفا أنه كان نصيب كل مغترب يتقاضى مرتبا شهريا حوالي 3 آلاف فرنك قديم، أما التاجر فكان يدفع 5 آلاف فرنك وباختصار فالإحصائيات تشير إلى أن 80 بالمائة، من ميزانية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كانت تأتي من الدعم المالي الذي يقدمه العمال المغتربون للثورة. وأكد، أنه بدون شك فإن تمويل الثورة ماليا بما لا يقل عن 16 مليار فرنك قديم، خلال أربع سنوات من 1958 إلى 1961، يعطينا فكرة واضحة عن مساهمة العمال المغتربين في عمليات التحرير الوطني، أما المساهمة الحيوية الثانية للعمال المغتربين في نجاح ثورة الجزائر، فإنها تتمثل في تصدي العمال الجزائريين لأنصار “الحركة الوطنية الجزائرية” الذين رفضوا العمل تحت لواء جبهة التحرير الوطني. وأوضح المؤرخ، أنه في عام 1958 أصبحت فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا تتشكل من مجموعة صغيرة من الثوريين أمثال بوداود عمر، بوعزيز سعيد، هارون علي، عدلاني قدور، وسويسي عبد الكريم، واستمرت هذه المجموعة في العمل الثوري بفرنسا لغاية حصول الجزائر على استقلالها في عام 1962، ونتيجة للمواقف البطولية للعمال المغتربين في خدمة وطنهم، قامت الشرطة الفرنسية بإلقاء القبض على 29.465 عاملا مغتربا في الفترة الممتدة من سنة 1956 إلى 1960، كما استشهد منهم 2.792 عامل مغترب وجرح منهم ما لا يقل عن 7.019 جزائريا.









