غابات تحترق خارج موسم الصيف وسط رياح ساخنة غير معتادة

حرائق الشتاء.. إنذار المناخ الجديد

حرائق الشتاء.. إنذار المناخ الجديد
  • شتاء دافئ على نحو مقلق يكشف اضطراب الفصول

  • نيران تنتشر بسرعة الصيف وجهود الإخماد لا تهدأ

اندلاعُ سلسلة الحرائق في غابات غرب تيبازة نهاية الأسبوع الماضي، وما رافقها من عمليات إجلاء وتعبئة واسعة للحماية المدنية والجيش، بات يقرأ كجرس إنذار جديد يضع الجزائر أمام ظاهرة غير مألوفة: حرائقٌ في قلب فصل الشتاء.

فبعد مرور يومين على اندلاع النيران، وبينما تتواصل جهود الإخماد عبر عديد المناطق، بدأت الأسئلة تتصاعد حول الأسباب المناخية التي جعلت غابات نوفمبر تشتعل بهذه السرعة، بفعل رياح ساخنة وجفاف متأخر وارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة. ومع عودة الدولة — من خلال زيارة الوزير الأول يوم الجمعة — إلى الميدان للإشراف على عمليات التدخل والتكفل بالعائلات المُجنّبة للخطر، باتت الظاهرة تتجاوز حدود الحدث الطارئ، لتطرح نفسها كملف مناخي جديد يستوجب قراءة أعمق واستعدادا من نوع آخر لمواسم حرائق لم تعد حكرا على الصيف.

 

حرائق الشتاء.. مؤشر مناخي يتجاوز الحدث العابر

Peut être une image de feu et texte

تفتح الحرائق التي اندلعت في غابات غرب تيبازة نهاية الأسبوع الماضي الباب واسعا أمام فهم مختلف لدورة المخاطر المناخية في الجزائر، فالمشهد لم يعد مرتبطا فقط بحرّ الصيف وجفافه، بل بات يمتد إلى أشهر لم تكن تُسجَّل فيها مثل هذه الظواهر. فاندلاع النيران في نوفمبر، وتوسع رقعتها خلال ساعات بسبب الرياح الساخنة والتيارات الهوائية، يمثلان علامة واضحة على اختلالٍ مناخي يتكرّر في منطقة المتوسط، حيث ترتفع درجات الحرارة في فترات كانت تُعرف بالبرودة والرطوبة. ويشير خبراء المناخ إلى أنّ الجزائر — كغيرها من دول الضفة الجنوبية — دخلت مرحلة انتقالية تتسم بتقلّب الفصول، وارتفاع معدل الأيام الحارة داخل الشتاء، ما يجعل الغابات أكثر هشاشة تجاه الاشتعال. فالتربة الجافة، وقلة الأمطار المتأخرة، وتراكم المواد القابلة للاحتراق، كلها عوامل تخلق بيئة شبيهة بمواسم الصيف، ولكن في توقيت لم يكن يُتوقع فيه الخطر. وتُظهر حرائق تيبازة الأخيرة، أن التحولات المناخية لم تعد مفهوماً نظرياً أو بيانات علمية بعيدة عن الواقع، بل أصبحت واقعًا ميدانيًّا تُعايشه وحدات الحماية المدنية لحظة بلحظة. فالسرعة التي انتقلت بها النيران من منطقة إلى أخرى، وصعوبة التحكم في انتشارها، يؤكدان أن الظروف المناخية في الشتاء باتت قادرة على خلق نفس التحديات التي عرفتها الجزائر خلال موجات الحر في شهري جويلية وأوت. ومن بين العوامل التي ساهمت في اشتداد الحرائق نهاية الأسبوع الماضي، تسجيل رياح شرقية ساخنة وغير موسمية، وهي ظاهرة لم تكن مألوفة في ديسمبر، إضافة إلى اضطراب في دورة التساقطات، بحيث سجلت الولاية جفافا امتد لأسابيع، وهو ما أتاح للنباتات اليابسة أن تتحول إلى وقود سريع الاشتعال. هذه المعطيات لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع لما يعرف بارتفاع حرارة المتوسط، إحدى أبرز علامات التغير المناخي عالميًا. ومع استمرار عمليات الإخماد إلى غاية اليوم، يتأكد أكثر فأكثر أن حرائق الشتاء تنبيه قوي إلى ضرورة تحديث برامج التنبؤ بالمخاطر وتوسيع جاهزية الأجهزة المختصة على مدار السنة. فالموسم الصيفي لم يعد وحده منطقة الخطر، بل باتت الفصول كلها مرشحة لحرائق واسعة، وهو ما يفرض إدراكًا جماعيًا لطبيعة المرحلة المناخية الجديدة التي دخلتها الجزائر.

 

زيارة الوزير الأول.. رسالة طمأنة في لحظة مناخية حساسة

Peut être une image de une personne ou plus et texte

وفي امتدادٍ طبيعي لخطورة الوضع الميداني، جاءت الزيارة التي قام بها الوزير الأول يوم الجمعة لتُترجم حضور الدولة في قلب الحدث، ولتمنح المواطنين شعورًا بأن حرائق الشتاء — رغم طابعها المفاجئ — تُواجَه بالجاهزية نفسها التي اعتمدتها الجزائر في مواسم الصيف. فالانتقال السريع للسيد سيفي غريب إلى مواقع الحرائق، ووقوفه على جهود الإخماد في حجرة النص ومسلمون، حمل رسالة واضحة مفادها أن الدولة تتعامل مع الظاهرة باعتبارها جزءًا من منظومة مخاطر جديدة تستوجب يقظة دائمة. وتكشف تفاصيل الزيارة عن بُعدَين أساسيين: بُعدٌ ميداني ركّز على متابعة عمليات الإخماد، واطلاع مباشر على انتشار النيران في المرتفعات والغابات، وبُعدٌ إنساني تجسد في تفقد مركز الإيواء المؤقت الذي احتضن العائلات المُجلية احترازيًا. هذا الحضور جاء بعد توسع رقعة الحريق بسرعة لافتة، ما استدعى اتخاذ إجراءات لتأمين السكان في ظل الرياح الساخنة التي ساهمت في تأجيج اللهب. وفي حديثه مع العائلات، شدّد الوزير الأول على أنّ تعليمات رئيس الجمهورية واضحة: عدم ترك أي مواطن في مواجهة الخطر، وضمان التكفل الأمثل بالصغار والكبار على حد سواء، خصوصًا في الجانب الصحي والنفسي. هذه الرسالة تحمل قيمة مضاعفة في سياق مناخي جديد، إذ يواجه المواطنون حرائق في توقيت لم يعتادوا احتمال وقوعها، ما يجعل عنصر الطمأنة ضرورياً بقدر ضرورة التدخل الميداني. كما أبرزت الزيارة أن مواجهة الحرائق لم تعد مسؤولية جهاز واحد، بل هي عملية منسقة بين الحماية المدنية، والجيش الوطني الشعبي، والسلطات المحلية، وفرق الفلاحة. هذا التنسيق الموسع، الذي شوهد في الميدان، يعكس إدراكًا رسميًا لكون الحرائق الشتوية قد تتحول إلى نمط متكرر، وبالتالي تستوجب بنية عملياتية مرنة تستجيب بسرعة لتغير الظروف. ومع مرور يومين على اندلاع النيران واستمرار الجهود على الأرض، بدت زيارة الوزير الأول بمثابة نقطة تأكيد على أن الدولة تتعامل مع الحرائق بمنطق “طوارئ المناخ الجديد”، أي اعتبار الخطر قابلاً للظهور في أي فصل، ومعاملته بالحزم نفسه، والتحضير لسيناريوهات غير تقليدية.

 

ظروف مناخية غير اعتيادية.. كيف اشتعلت غابات نوفمبر بهذه السرعة؟

Peut être une image de feu et arbre

ومع اتساع رقعة الحرائق في غرب تيبازة، برز سؤال جوهري فرض نفسه على المختصين والمتابعين: كيف يمكن لحرائق بهذا الحجم أن تشتعل في نوفمبر، في وقت من المفترض أن تكون فيه الغابات في ذروة رطوبتها؟ الإجابة التي بدأت تتضح عبر المعطيات الميدانية تشير إلى أن ما حدث لم يكن مجرد حادث طارئ، بل نتيجة تفاعل عوامل مناخية استثنائية جعلت من شتاء هذا العام أقرب إلى “خريف جاف” منه إلى موسم بارد ورطب. فالرياح الساخنة التي سُجلت نهاية الأسبوع الماضي، إلى جانب ضعف التساقطات خلال الأسابيع الأخيرة، خلقت بيئة قابلة للاشتعال بصورة لم تكن مألوفة في مثل هذا التوقيت. وتُظهر بيانات الأرصاد الجوية، أن المنطقة شهدت موجة تيارات هوائية جنوبية شرقية دافئة، رفعت درجات الحرارة إلى مستويات أعلى من المعتاد، وتسببت في جفاف سريع لطبقة النباتات السطحية. هذا الارتفاع المفاجئ في الحرارة داخل فصل الشتاء يُعد من أبرز مؤشرات الاختلال المناخي الذي يغيّر نمط الفصول، ويخلق “جيوب حرارة” قادرة على تحويل غابة شتوية إلى مساحة قابلة للاشتعال بأسرع مما كان يُتوقع. كما ساهمت سرعة الرياح في انتشار النيران بشكل متسارع، حيث سجّلت مصالح الحماية المدنية انتقالًا سريعًا للهب بين سفوح الجبال، ما عقد مهمة المئات من الأعوان في احتواء الحرائق. فالرياح لم تكن تحمل الحرارة فحسب، بل حملت معها شظايا محترقة تنقلت عبر المنحدرات، وهو ما ساعد في ظهور بؤر جديدة على مسافات متباعدة، وأجبر فرق الإطفاء على إعادة الانتشار أكثر من مرة داخل المناطق الوعرة. ومن ناحية أخرى، يشير الخبراء إلى أن التربة في العديد من مناطق الساحل الغربي عانت هذا العام من “جفاف مبكر” بسبب تأخر الأمطار، ما أدى إلى تراكم مواد عضوية يابسة لم تتبلل خلال الأيام الماضية، فكانت بمثابة وقود طبيعي جاهز للاشتعال. هذ النمط الجديد — تداخل أيام الحَرّ داخل فترة الشتاء — هو إحدى النتائج المباشرة لتغير المناخ في منطقة المتوسط، التي تعد من أكثر المناطق عرضة لارتفاع درجات الحرارة عالميًا. وتؤكد هذه المعطيات مجتمعة أن ما حدث في تيبازة لا يمكن قراءته كمجرد حادث حرائق آخر، بل كإشارة واضحة إلى أن الجزائر تدخل مرحلة مناخية جديدة، يصبح فيها الشتاء موسماً غير مضمون للرطوبة. هذه الظروف تستوجب إعادة التفكير في خطط التدخل، وجدولة اليقظة البيئية، واعتبار الحرائق الشتوية احتمالاً قائمًا لا يقل خطورة عن حرائق الصيف.

 

البعد الإنساني للأزمة.. عائلات تواجه صدمة غير متوقعة في قلب الشتاء

Peut être une image de feu

وإلى جانب الجهد الميداني والتحديات المناخية، برزت في حرائق غرب تيبازة نهاية الأسبوع الماضي صورة إنسانية لافتة، أعادت التأكيد على أن تأثير الحرائق لا يقتصر على الغابات والمساحات الطبيعية، بل يمتد إلى حياة الناس اليومية، خاصة حين تحدث في توقيت غير معتاد. فالعائلات التي أُجلِيت من مساكنها في مسلمون وبلديات مجاورة وجدت نفسها أمام صدمة مضاعفة: صدمة الخطر نفسه، وصدمة حدوثه في نوفمبر، الشهر الذي اعتاد فيه السكان على أمطار غزيرة وطقس بارد لا يسمح للنار بالامتداد بهذه السرعة. وقد شكّل مركز الإيواء المؤقت في مدرسة الشهيد محمد بوعبد الله محطة أساسية في التعامل مع هذه الوضعية، حيث وفّرت الفرق الطبية والنفسية دعماً عاجلاً للأطفال والعائلات التي عاشت ساعات من التوتر والانتظار. فالإجلاء في حد ذاته تجربة نفسية معقدة تتطلب مرافقة مهنية لتخفيف آثارها، خاصة لدى الفئات الهشة التي لم تستوعب بعد كيف يمكن لحرائق واسعة أن تضرب مناطقهم في عز الشتاء. ولعل ما زاد من وطأة الموقف على الأهالي هو مشهد دخان كثيف يغطي المرتفعات في ساعات يفترض أن تكون رطبة وباردة، ما جعل الكثيرين يتحدثون عن “شتاء مختلف” لا يشبه ما عرفته المنطقة في العقود الماضية. ومع تصاعد اللهيب في بداية الليل، كان الشعور العام هو أن الأمر يتجاوز مجرد حادث: إنها إشارة واضحة إلى تحوّل في إيقاع المناخ نفسه، وهو ما خلق حالة من القلق المشروع لدى السكان حول مستقبل مواسم الشتاء في منطقتهم. كما حملت زيارة الوزير الأول إلى مركز الإيواء بُعدًا تطمينيًا مهمًا، عكس حرص الدولة على التكفل الشامل بكل العائلات المتضررة، وتوفير الرعاية الصحية والنفسية اللازمة لهم. وبالنسبة للعديد من الأسر، كان لهذا الحضور الميداني قيمة مضاعفة، إذ منحهم إحساسا بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة ظرف طارئ وغير مألوف، وأن الإجراءات الوقائية كانت سريعة وفعالة، مما خفف من حالة الارتباك الأولى. وتُظهر التجربة الإنسانية لهذه الحرائق أن التغيرات المناخية لا تضرب الطبيعة وحدها، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية للناس، وتفرض على الدولة والمجتمع نمطًا جديدًا من الاستعداد النفسي والاجتماعي. فحرائق الشتاء — بما تحمله من مفاجأة وصعوبة إدراك — تُعد اختبارًا لمدى جاهزية المنظومة الاجتماعية لمواجهة مخاطر غير نمطية تتزايد حدتها سنة بعد أخرى.

 

نحو استراتيجيات جديدة.. كيف تستعد الجزائر لمواسم حرائق غير تقليدية؟

Peut être une image de feu

ومع اتضاح أن ما جرى في غابات غرب تيبازة نهاية الأسبوع الماضي لم يكن مجرد طارئ موسمي، بل علامة على مرحلة مناخية تتبدل ملامحها، برز سؤال أساسي: كيف يمكن للجزائر أن تُعيد ضبط خططها الوطنية لمواجهة حرائق لم تعد ترتبط بالصيف وحده؟ فالتحول المناخي، الذي جعل من ديسمبر شهرًا قابلاً لاشتعال الغابات، يفرض على السلطات التفكير في نموذج مختلف لإدارة المخاطر، يقوم على الجهوزية المستمرة طوال العام، وليس خلال أشهر الحر فقط. وتُظهر التجارب الدولية أن التعامل مع حرائق الشتاء يحتاج إلى تحديث شامل لأنظمة الرصد والإنذار المبكر، بحيث يتم اعتماد خرائط مناخية توقّعية ترصد موجات الجفاف المفاجئة، وتحلل التغيرات السريعة في التيارات الهوائية. فدول المتوسط، التي تعيش تحوّلات مشابهة، انتقلت إلى اعتماد ما يسمى “المراقبة السنوية المفتوحة”، وهي آلية تقوم على رصد الغطاء النباتي بشكل دائم، وتقييم قابليته للاشتعال حتى في الأشهر التي كانت تُعتبر آمنة سابقًا. كما تستدعي الظاهرة استثمارًا أكبر في الطائرات المتخصصة بإخماد النيران، وتوسيع قدرات الحماية المدنية عبر وحدات متنقلة جاهزة للتحرك في أي لحظة. فالمشهد الذي تكرر في تيبازة — سرعة انتشار اللهيب، وصعوبة احتوائه في مناطق جبلية — يكشف أن الظاهرة تحتاج إلى وسائل أكثر مرونة وقدرة على التدخل في تضاريس صعبة، بما يضمن احتواء الحرائق قبل خروجها عن السيطرة. ولا يقتصر الأمر على الجانب العملياتي، بل يمتد إلى البعد البيئي، الذي أصبح اليوم جزءًا أساسيًا من استراتيجية مواجهة مخاطر المناخ. فإعادة تأهيل الغابات المتضررة، وتنظيف مسارات النار، وتقليم المساحات الكثيفة لتقليل قابلية الاشتعال، كلها إجراءات باتت ضرورية ضمن رؤية طويلة المدى. كما أن تعزيز برامج التوعية البيئية، خاصة في المناطق الريفية والجبلية، يعد خطوة مهمة للحد من أي سلوك قد يزيد من احتمال نشوب حرائق في أوقات غير متوقعة. وتبرز كذلك الحاجة إلى تعاون علمي مع الجامعات ومراكز البحث، لتطوير دراسات دقيقة حول تغير أنماط المناخ في الجزائر، وتأثيراتها على الغطاء النباتي. ففهم الظاهرة هو الخطوة الأولى نحو التكيف معها، خاصة في ظل مؤشرات تشير إلى أن السنوات المقبلة قد تشهد تكرارًا أكبر لحرائق غير موسمية، وهو ما يفرض على صانعي القرار إدراج هذه التطورات ضمن السياسات المناخية والبيئية الوطنية. ومع تواصل جهود الإخماد إلى غاية اليوم، يتأكد أن مواجهة حرائق الشتاء لم تعد مجرد مسألة ظرفية، بل جزء من معركة طويلة مع تغيرات مناخية تتبدل ملامحها باستمرار. ومع استعداد الجزائر لتحديث منظومتها في مواجهة هذه التحديات، تبدو المرحلة المقبلة عنوانًا لوعي جديد بضرورة التأقلم مع واقع مناخي غير تقليدي، تُصبح فيه الحماية من حرائق  نوفمبر وديسمبر وحتى جانفي ضرورة لا تقل أهمية عن حماية غابات جويلية وأوت.