بدأت معالم مشروع “الجزائر الجديدة” الذي وعد به الرئيس عبد المجيد تبون، منذ انتخابه في 12 ديسمبر 2019، تتضح جليا بفضل الديناميكية الإيجابية التي شهدتها البلد، خلال الأشهر الأخيرة، في جميع المجالات والأصعدة والتوجه نحو تجسيد العديد من الدعائم اللازمة لضمان استرجاع ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها، في هذا الملف سنسترجع أهم النقاط التي تجسدت ميدانيا في مسار النهج السياسي الجديد.
وأعاد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، إلى قصر الشعب بالعاصمة، احتفالية تقليد الرتب وإسداء الأوسمة لضباط في الجيش، لأول مرة منذ عقود، حرصا منه – يقول- على ترجمة تلك الصور الرائعة للتلاحم العضوي بين الجيش والشعب وانصهارهما في بوتقة واحدة هي الأصل.
وأكد أن هذه المناسبة التاريخية “فاصلة في حياة الأمة، بعد مرحلة الانحراف التي أَبعدت الشعب عن حكامه، مما أدى إلى انتفاض الشعب في حراكه المبارك، بكل مكوناته وفئاته من أجل التغيير الجذري بمعية جيشه العتيد سليل جيش التحرير الوطني”.
مشاورات متواصلة
باشر الرئيس تبون سلسلة مشاورات ولقاءات منذ انتخابه رئيسا للجمهورية في استحقاق 12 ديسمبر 2019، بقيادات حزبية، وشخصيات ذات تجربة، مارست وظائف أكسبتها خبرة، أو تعرّضت إلى الإقصاء في وقت سابق وأكد بشأن ذلك بقوله: “سنأخذ برأيهم ونظرتهم بشأن أمهات القضايا المطروحة التي تهم الرأي العام”.
وقال في أحد حواراته مع وسائل الإعلام الوطنية: “من الضروري الاستماع لمختلف الأصوات والأطراف، بمن فيها المسؤولين السابقين.. نحن لا ننفرد بالرأي، وقد تجد في النهر ما لا تجده في البحر، ولذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار كل الآراء..”.
وكبادرة حسن نية، أجرى الرئيس تبون زيارة خاصة إلى وزير الخارجية الأسبق، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، في بيته، تعكس الإرادة الصادقة في إنجاح التغيير الذي طالب به حراك 22 فيفري، وتعكس كذلك الخروج من دائرة “قرار الرجل الواحد”، مثلما وعد به رئيس الدولة، وذلك بإشراك واستشارة الشخصيات الوطنية والثورية وقيادات الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني، بما يسهم في تكريس مشروع الجزائر الجديدة.
ولعل أهم لقاء ذلك الذي استقبل فيه الرئيس الأسبق، اليامين زروال في مقر الرئاسة وأجرى معه مشاورات حول قضايا سياسية ووطنية.
تغييرات بقيادة الجيش
واصل الرئيس عبد المجيد تبون، سلسلة التغييرات في قيادات الجيش، حيث قام بترقية كل من قائد الأركان بالنيابة اللواء سعيد شنقريحة، إلى رتبة فريق، وقائد الحرس الجمهوري الفريق بن علي بن علي، إلى رتبة فريق أول.
وتأتي ترقية شنقريحة وبن علي وآخرين، ضمن تغييرات متتالية في قيادة الجيش وإدارة وزارة الدفاع، يجريها تبون منذ وصوله الرئاسة، في 19 ديسمبر الماضي.
وبمناسبة عيد الاستقلال، 1962، أشرف تبون خلال حفل في قصر الشعب بالعاصمة، الخميس، على تقليد رتبة لواء لعدد من العمداء، ورتبة عميد لعدد من العقداء. ومنذ مطلع 2020، أجرى تبون تغييرات عدة في قيادة الجيش، شملت تعيين اللواء محمد عثامنية، قائدا جديدا للقوات البرية، خلفا للواء شنقريحة الذي تولى قيادة الأركان بالنيابة.
كما أقال الجنرال واسيني بوعزة من إدارة قسم الأمن الداخلي بالمخابرات، وعين مكانه نائبه عبد الغني راشدي وعين اللواء محمد بوزيت على رأس قسم الأمن الخارجي بالمخابرات، خلفا للعقيد كمال الدين رميلي.
ومست التغييرات أيضا مدير القضاء العسكري بالدفاع اللواء عمار بوسيس، وتم استبداله بالعقيد عاشور بوقرة، كما أقال مدير دائرة التحضير والعمليات بالوزارة اللواء محمد بشار، وعين اللواء محمد قايدي خلفا له.
وفي 2 جوان الماضي، ترأس تبون اجتماعا مع قادة الجيش بمقر وزارة الدفاع هو الثاني من نوعه منذ وصوله إلى الحكم، وأشاد بمواقف الجيش خلال الأزمة السياسية التي شهدتها البلد العام الماضي ومواجهة التحديات الأمنية.
نحو دستور جديد وأخلقة العمل السياسي
لم ينتظر الرئيس عبد المجيد تبون، كثيرا بعد انتخابه في 12 ديسمبر 2019، ليعلن في 8 جانفي 2020، عن تشكيل لجنة لتعديل الدستور برئاسة الخبير في الأمم المتحدة أحمد لعرابة وتضم 17 عضوا، وفاء بالوعود التي أطلقها طيلة الحملة الانتخابية بإعادة النظر في الوثيقة الأولى للدولة وطبيعة نظام الحكم.
وتولت اللجنة “تحليل وتقييم كل جوانب تنظيم وسير مؤسسات الدولة، على أن تقدم إلى رئيس الجمهورية مقترحات وتوصيات بغرض تدعيم النظام الديمقراطي القائم على التعددية السياسية والتداول على السلطة، وصون البلد من كل أشكال الانفراد بالسلطة وضمان الفصل الفعلي بين السلطات وتوازن أفضل بينها، وهذا بإضفاء المزيد من الانسجام على سير السلطة التنفيذية وإعادة الاعتبار للبرلمان خاصة في وظيفته الرقابية لنشاط الحكومة”.
وظل الرئيس تبون يشدد في كل مناسبة على أن “بناء الجزائر، التي يطمح إليها المواطنون والمواطنات، يستلزم إعادة النظر في منظومة الحكم من خلال إجراء تعديل عميق على الدستور، الذي يعتبر حجر الزاوية لبناء الجمهورية الجديدة”.
وأوضح أنه سيتم أيضا إعادة النظر “في بعض النصوص القانونية الهامة مثل قانون الانتخابات. كما أنه يستلزم من جهة أخرى أخلقة الحياة السياسية عبر تكريس الفصل بين المال والسياسة ومحاربة الرداءة في التسيير”.
جماجم مقاومين جزائريين تعود من المنفى
وفي وقت كان الجميع ينتظر أن تمر الاحتفالات بالذكرى الـ58 لعيدي الاستقلال والشباب بصفة عادية، فاجأ رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الجزائريين بقدوم طائرة عسكرية تابعة للقوات الجوية الجزائرية، على متنها 24 رفات من قادة المقاومة الشعبية ورفاقهم إلى أرض الوطن قادمة من فرنسا، مؤكدا أنه سيلتحق بهذه المجموعة الأُولى باقي رفات الشهداء المنفيين أمواتا، لأن الدولة “عازمة على إتمامِ هذه العملية حتى يلتئم شمل جميعِ شهدائنا فوق الأرض التي أَحبوها وضحوا من أجلها بأعز ما يملكون”.
الرئيس تبون قال: “إِن ذلك لفي صميمِ واجباتنا المقدسة في حماية أرواحِ الشهداء ورموزِ الثورة، وعدمِ التنازل بأي شكل من الأشكال عن أي جزء من تراثنا التاريخي والثقافي، وفي الوقت نفسه وحتى لا نعيش في الماضي فقط، فإن استذكار تاريخنا بكل تفاصيله، بمآسيه وأفراحه، بهدف حفظ الذاكرة الوطنية وتقييمِ حاضرِنا بمحاسنه ونقائصه، سيضمن لأبنائنا وأحفادنا بناء مستقبل زاهرٍ وآمن، بشخصية قوية تحترم مقومات الأمة، وقيمها وأخلاقها”.
ويعتبر هذا إنجازا يُحسب لفترة الرئيس الحالي، بعد التمكن من تفكيك إحدى القنابل التي كانت تفخخ العلاقات الجزائرية الفرنسية ضمن ملف الذاكرة، ولم ينس تبون أن يعرب عن تقديره “لكل من ساهم في الداخل والخارج في إنجاز هذا المكسب الجديد لذاكرتنا الوطنية التي نتمسك بها كاملة، غير منقوصة”، خاصا بالذكر “خبراءنا المشكورين على ما بذلوه من جهود في السنوات الأخيرة لتحديد هويات الرفات المحفوظة في أقبية غريبة عن وطنها وعادات أهلها، تمهيدا لإعادتها إلى أرض الوطن إلى جانب الشهداء الآخرين”.
وظلت السلطات الجزائرية تتهم باريس بتعطيل عملية نقل الجماجم إلى الجزائر، فيما تقول باريس إن الأمر يتطلب إجراءات قانونية معقدة، لضمان إخراجها من متحف باريس.
وكان الرئيس تبون بعد وصوله الحكم، في 19 ديسمبر الماضي، قد تعهد باستعادة هذه الجماجم، ودفنها في الجزائر.
8 ماي 1945 يوما وطنيا للذاكرة
في 7 ماي 2020، أصدر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، قرارا باعتبار الثامن ماي من كل سنة يوما للذاكرة وذلك عشية الذكرى الـ75 لمجازر 8 ماي 1945.
الرئيس تبون برر القرار بقوله: “ولأن تاريخنا سيظل في طليعة انشغالات الجزائر الجديدة وانشغالات شبابها، ولن نفرط فيه أبدا في علاقاتنا الخارجية، فقد أصدرت بهذه المناسبة قرارا باعتبار الثامن ماي من كل سنة، يوما وطنيا للذاكرة، كما أعطيت تعليمات بإطلاق قناة تلفزيونية وطنية خاصة بالتاريخ، تكون سندا للمنظومة التربوية في تدريس هذه المادة التي نريدها أن تستمر حية مع كل الأجيال، كما وجهت أمرا بالانتهاء من إطلاق أسماء شهداء المقاومة الشعبية وثورة التحرير المجيدة على المجمعات السكنية، وأحياء المدن، والتوسع في ترميم المعالم التاريخية لتقف شاهدة على مر الأجيال على الثمن الباهض الذي دفعه شعبنا في التصدي لوحشية الاحتلال الاستعماري حتى يعيش حرا كريما وموحدا فوق أرضه، فخورا بماضيه ومسترشدا به في صياغة المستقبل في ظل الديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية”.
العفو عن نشطاء الحراك ومساجين
وفي خطوة نحو تكريس ثقافة العفو والتسامح، أصدر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، مرسوما رئاسيا يتضمن إجراءات عفو لفائدة أشخاص محبوسين بمناسبة الذكرى المزدوجة الـ58 لعيدي الاستقلال والشباب.
وأفاد بيان لرئاسة الجمهورية، أنه بمقتضى هذا المرسوم وطبقا للدستور، ولقانون العقوبات المعدل والمتمم، وبناء على الرأي الاستشاري للمجلس الأعلى للقضاء، يستفيد الأشخاص المحبوسون المحكوم عليهم نهائيا عند تاريخ إمضاء هذا المرسوم من عفو كلي للعقوبة.
وتضمنت القائمة المعلنة للمحبوسين، علال شريف نصر الدين، بحلاط إلياس، شداد جلول، رياحي مليك، خاضر حسين، داود بن عمران جيلالي، ومنذ انتخابه عفا الرئيس عبد المجيد تبون عن آلاف السجناء، وشمل أكبر عفو رئاسي في فيفري الماضي 10 آلاف سجين، كان من بينهم 76 من نشطاء الحراك.
القضاء يضرب بيد من حديد رموز الفساد
قضائيا، شددت العدالة أحكامها ضد عدد من رموز نظام الرئيس السابق بوتفليقة، المتورطين في قضايا فساد وفضائح اختلاس أموال عمومية بالتواطؤ مع رجال أعمال وموظفين حكوميين.
بدأت حملة قضائية ضد رموز نظامه من مسؤولين ورجال أعمال. وكان شقيقه سعيد بوتفليقة من أبرز الأسماء التي طالتها حملة الاعتقالات، إضافة إلى مدير المخابرات السابق محمد مدين وبشير طرطاق الذين صدرت في حقهم أحكام ثقيلة بالسجن، كما أصدر القضاء أحكاماً ثقيلة ضد أسماء أخرى من كبار رموز نظام بوتفليقة متورطين في قضايا فساد ومن بينهم الوزيران الأولين السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، والمدير العام السابق للأمن الوطني عبد الغني هامل، ورجال أعمال مقربين من بوتفليقة وعائلته.
عنجهية فرنسا تنكسر أمام أسوار السيادة
تمكنت الجزائر منذ وصول الرئيس تبون إلى الحكم من رسم حدود جديدة لعلاقاتها مع فرنسا التي اتسمت في كثير من الأحيان بالتوتر والشحن الإعلامي المتبادل.
ومنذ بدء الحراك الشعبي في الجزائر، بدا التحول المفصلي واضحا في العلاقات بين الجزائر وفرنسا، فعلى مدار عام كامل تعددت محطات التوتر والخلافات والبيانات إزاء مواقف سياسية وتصريحات فرنسية تخص الشأن الجزائري، وانتهى هذا التوتر المتصاعد إلى الخطوة الأخيرة المتعلقة بإعلان الجزائر سحب سفيرها من باريس إلى أجل غير معلوم.
ولعل الخطوة التي فهمتها جيدا باريس، هي إقدام الجزائر للمرة الأولى في تاريخ علاقاتها مع فرنسا على سحب سفيرها من باريس للتشاور وإلى أجل غير محدود، على خلفية بث قناة “فرانس 5″، فيلم وثائقي عن الحراك الشعبي في الجزائر، لكنها كانت المرة الثانية في غضون أقل من شهرين التي تتخذ فيها الجزائر خطوة احتجاج دبلوماسي حاد ضد باريس، بسبب حملة إعلامية موجهة ضد الجزائر.
واستفاد الحزم السياسي للجزائر من إسناد شعبي داخلي في اتجاه تفكيك مجموعات المصالح السياسية والاقتصادية التي كانت تحفظ مصالح فرنسا في الجزائر، خاصة في قطاعات الصناعة والتجارة والطاقة، وكذا المصالح الثقافية في ما يتّصل بهيمنة اللغة الفرنسية أيضا.
أمين. ب












