أنوار من جامع الجزائر

خَصَائِصِ التَّعْلِيمِ فِي رِسَالَةِ الإِسْلَامِ – الجزء الثاني –

خَصَائِصِ التَّعْلِيمِ فِي رِسَالَةِ الإِسْلَامِ – الجزء الثاني –

وَمِنْ أَبْرَزِ خَصَائِصِ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ فِي التَّعْلِيمِ هُوَ مَبْدَأُ التَّكَامُلِ بَيْنَ العُلُومِ المُخْتَلِفَةِ، فَالإِسْلَامُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلِ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ، وَبين العُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ، مِثْلِ الطِّبِّ وَالفَلَكِ وَالكِيمْيَاءِ؛ فَكِلَاهُمَا يَهْدِفُ إِلَى تَحْقِيقِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ، وَبِنَاءِ الإِنْسَانِ الصَّالِحِ وَالمُجْتَمَعِ القَوِيِّ ، وَقَدْ أَدْرَكَ العُلَمَاءُ المُسْلِمُونَ الأَوَائِلُ أَنَّ العِلْمَ الدُّنْيَوِيَّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ غَايَتِهِ الإِيمَانِيَّةِ، وَأَنَّ دِرَاسَةَ الكَوْنِ هِيَ فِي جَوْهَرِهَا عِبَادَةٌ وَتَأَمُّلٌ فِي عَظَمَةِ الخَالِقِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ” آل عمران: 190، هَذَا الرَّبْطُ بَيْنَ العِلْمِ وَالغَايَةِ الإِيمَانِيَّةِ هُوَ مَا مَكَّنَ الحَضَارَةَ الإِسْلَامِيَّةَ مِنَ التَّفَوُّقِ، حَيْثُ كَانَ العُلَمَاءُ فُقَهَاءَ وَأَطِبَّاءَ وَفَلَاسِفَةً وَمُهَنْدِسِينَ فِي آنٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي كُلِّ عِلْمٍ سَبِيلًا لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَخِدْمَةِ عِبَادِهِ، وَالجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ التَّجْرِبَةَ الحَضَارِيَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ تَشْهَدْ فَصْلًا أَوْ صِرَاعًا بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ المَعْرِفَةِ كَمَا حَدَثَ فِي الثَّقَافَاتِ الأُخْرَى، بَلْ إِنَّ الثَّقَافَةَ الإِسْلَامِيَّةَ اعْتَبَرَتْ أَنَّ الكَوْنَ “آيَةٌ” مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّ دِرَاسَةَ الكَوْنِ هِيَ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ فَهْمِ “الآيَةِ”، مَا يَجْعَلُ دِرَاسَةَ الطَّبِيعَةِ عِبَادَةً، اسْتِلْهَامًا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: “قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ” يونس: 101، هَذَا الرَّبْطُ المَنْهَجِيُّ أَدَّى إِلَى دَمْجِ العُلُومِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ فِي المُؤَسَّسَاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَهُوَ مَا تجلَّى فِي مناهجها فِي العَصْرِ العَبَّاسِيِّ الَّتِي لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى العُلُومِ الدِّينِيَّةِ، بَلْ شَمِلَتِ العُلُومَ الطَّبِيعِيَّةَ وَالصِّنَاعِيَّةَ وَالفَنِّيَّةَ أَيْضًا. هَذِهِ النَّظْرَةُ المُتَكَامِلَةُ كَانَتِ المُحَرِّكَ الأَسَاسَ لِلِازْدِهَارِ العِلْمِيِّ الَّذِي شَهِدَتْهُ الحَضَارَةُ الإِسْلَامِيَّةُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ صِرَاعٌ بَيْنَ العِلْمِ وَالدِّينِ، بَلْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَخْدُمُ الآخَرَ وَيَغْذُوهُ. وَمِنْ أُسُسِ رِسَالَةِ التَّعْلِيمِ فِي الإِسْلَامِ ، أَنَّهُ لَيْسَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَرْحَلَةٍ عُمْرِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ اسْتِنَادًا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: “وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا” طه: 114، فَهَذِهِ الغَايَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَهِيَ بِحَدٍّ زَمَنِيٍّ، مِمَّا رَسَّخَ ثَقَافَةً مُجْتَمَعِيَّةً تُقَدِّرُ التَّعَلُّمَ مَدَى الحَيَاةِ، وَدَفَعَتْ بِالعُلَمَاءِ إِلَى مُوَاصَلَةِ طَلَبِ العِلْمِ وتَعْليمِهِ حَتَّى آخِرِ أَيَّامِهِمْ من غيرِ تقَاعُدٍ ولا تقَاعسٍ ، وَخَلَّدُوا فِي ذَلِكَ أَرْوَعَ القَصَصِ. وَأمّا الأَسَاسُ الأَخْلَاقِيُّ لِمَنْظُومَةِ التَّعْلِيمِ فِي الإِسْلَامِ فهُوَ أيضاً جُزْءٌ جَوْهَرِيٌّ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ رِسَالَتِهِ، حَيْثُ يَرْبِطُ العِلْمَ بِالأَخْلَاقِ وَالعَمَلِ، وَيَجْعَلُ مِنْهُ وَسِيلَةً لِبِنَاءِ شَخْصِيَّةٍ مُتَكَامِلَةٍ، وَهُوَ مَا يُمَيِّزُ المَنْهَجَ الإِسْلَامِيَّ عَنِ المَنَاهِجِ الحَدِيثَةِ الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى التَّعْلِيمِ المَعْرِفِيِّ فَقَطْ وَتَأْهِيلِ الفَرْدِ لِسُوقِ العَمَلِ دُونَ الاهْتِمَامِ بِتَقْوِيمِ أَخْلَاقِهِ وَتَهْذِيبِ سُلُوكِهِ، وَتَقُومُ هَذِهِ المَنْظُومَةُ عَلَى مَبَادِئَ أَسَاسِيَّةٍ تَخُصُّ كُلًّا مِنْ المُعَلِّمِ وَالطَّالِبِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.

  • إِخْلَاصُ النِّيَّةِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ العِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ لِأَجْلِ أَيِّ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلٍ، ففي الصحيحيْن عَن عمرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”.
  • العَمَلُ بِالعِلْمِ: بَرَكَةُ العِلْمِ العَمَلُ بِهِ، فَلَا قِيمَةَ لِعِلْمٍ لَا يُتَرْجَمُ إِلَى سُلُوكٍ وَعَمَلٍ، وَالعِلْمُ الحَقِيقِيُّ هُوَ مَا يُورِثُ الخَشْيَةَ فِي القَلْبِ وَيَدْفَعُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ.

 

الجزء الثاني من خطبة الجمعة من جامع الجزائر