إِنَّ المُتَأَمِّلَ المُنصِفَ فِي تَارِيخِ الفِكْرِ الإِنسَانِيِّ، لَيَلْحَظُ بِوُضُوحٍ بِأَنَّهُ لَمْ تَبرُزْ دَعْوَةٌ لِلعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ بِمِثْلِ الشُّمُولِ وَالعُمْقِ الَّذِي بَرَزَتْ بِهِ فِي الرِّسَالَةِ الإِسْلامِيَّةِ. فَلَيْسَ التَّعلِيمُ مُجَرَّدَ أَدَاةٍ لِنَيْلِ مَنَافِعَ دُنيَوِيَّةٍ أَوْ رِفْعَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ غَايَتُهُ أَسْمَى وَأَشْرَفُ؛ أَلَا وَإِنَّ غَايَتَهُ الأُولَى مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ طَرِيقِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ؛ ثُمَّ هُوَ سَبِيلُ المَجْدِ الَّذِي تُبْنَى بِهِ الحَضَارَاتُ وَتَزْدَهِرُ بِهِ الأُمَمُ وَتَتَحَصَّنُ مِنْ ظُلُمَاتِ الجَهْلِ وَالتَّخَلُّفِ. انْطَلَقَتْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ النَّبِيلَةُ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَتْ هِيَ أَوَّلَ كَلِمَاتِ الوَحْيِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَارِ حِرَاءَ: “اقْرَأْ”. لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الكَلِمَةُ سِوَى أَمْرٍ بِالقِرَاءَةِ، فِي إِشَارَةٍ وَاضِحَةٍ إِلَى أَنَّ العِلْمَ أَسَاسُ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَمِفْتَاحُ كُلِّ مَعْرِفَةٍ، وَرُكْنٌ لَا غِنَاءَ عَنْهُ فِي بِنَاءِ الإِنْسَانِ وَصَلَاحِهِ.
إِنَّ هَذِهِ البِدَايَةَ الفَرِيدَةَ تَضَعُ التَّعْلِيمَ فِي مَكَانَةٍ جَوْهَرِيَّةٍ لَمْ يَبْلُغْهَا فِي أَيِّ حَضَارَةٍ سَابِقَةٍ؛ إِذْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ قَارِئًا وَلَا كَاتِبًا، مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ القِرَاءَةَ المَطْلُوبَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى حُرُوفِ الكِتَابَةِ، بَلْ هِيَ قِرَاءَةٌ شَامِلَةٌ فِي الآفَاقِ وَالأَنْفُسِ، وَتَدَبُّرٌ لِآيَاتِ اللَّهِ فِي الكَوْنِ المَنْظُورِ وَالكِتَابِ المَسْطُورِ. هَذَا التَّوَسُّعُ فِي مَفْهُومِ القِرَاءَةِ أَسَّسَ لِنَمُوذَجٍ تَعْلِيمِيٍّ مُتَكَامِلٍ، يَجْمَعُ بَيْنَ المَعْرِفَةِ المُكْتَسَبَةِ مِنَ النَّظَرِ فِي الأَكْوَانِ وَبَيْنَ البَصِيرَةِ الرُّوحِيَّةِ المُسْتَنِيرَةِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ الصِّلَةِ بِهِ تَعَالَى. إِنَّ رِسَالَةَ الإِسْلَامِ فِي التَّعْلِيمِ لَتَتَأَسَّسُ عَلَى مَرْجِعِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ عَمِيقَةٍ، يَتَصَدَّرُهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ، الَّتِي تَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ العِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالمُعَلِّمِ وَالمُتَعَلِّمِ إِلَى مَكَانَةٍ سَامِيَةٍ؛ فَأَوَّلُ الآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ -كَمَا أَسْلَفْنَا- عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ أَمْرًا بِالعِبَادَةِ المُبَاشرَةِ، بَلْ كَانَتْ أَمْرًا بِالقِرَاءَةِ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” العلق: 1-5. وَهَذَا التَّأْسِيسُ القُرْآنِيُّ يُوَضِّحُ أَنَّ المَعْرِفَةَ وَالكِتَابَةَ لَيْسَتَا مُجَرَّدَ أَدَوَاتٍ، بَلْ هُمَا مِنْ أَجّلِ النِّعَمِ الرَّبَّانِيَّةِ عَلَى الإِنْسَانِ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ تَرْبِطُ فِعْلَ القِرَاءَةِ بِالعَقِيدَةِ وَالتَّوْحِيدِ وَأَسْرَارِ الخَلْقِ، مَا يَجْعَلُ طَلَبَ العِلْمِ جُزْءًا مِنَ العِبَادَةِ وَالرِّسَالَةِ الدِّينِيَّةِ. وَتَتَوَالَى النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ فِي تَأْكِيدِ هَذِهِ المَكَانَةِ، فَفِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، نَجِدُ آيَاتٍ تَحُثُّ عَلَى طَلَبِ الاسْتِزَادَةِ مِنَ العِلْمِ بِشَكْلٍ مُسْتَمِرٍّ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا” طه: 114؛ هَذَا الأَمْرُ المُوَجَّهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ نَفْسِهِ، يُؤَكِّدُ أَنَّ العِلْمَ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ نِهَايَتُهَا، وَأَنَّ مَسِيرَةَ التَّعَلُّمِ هِيَ عَمَلِيَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ مَدَى الحَيَاةِ، كَمَا رَفَعَ القُرْآنُ الكَرِيمُ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ العِلْمِ وَقَرَنَهُمْ بِالمَلَائِكَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، قَالَ تَعَالَى: “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ” آل عمران: 18، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَشْيَةً لِلَّهِ هُمُ العُلَمَاءُ قَالَ تَعَالَى: ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ” فاطر: 28، فهَذِهِ الآيَةُ تُوضّح أَنَّ العِلْمَ الحَقِيقِيَّ لهُوَ الَّذِي يُورِثُ الخَشْيَةَ فِي القَلْبِ، وَيَقُودُ إِلَى الإِيمَانِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ مَعْلُومَاتٍ جَافَّةٍ وَإِنْ كَثُرَتْ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر