يحتفظ سكان ولايات الغرب الجزائري بسلوكات اجتماعية يختص بها أهلها، وخاصة تلك المتعلقة والشائعة في رمضان، والتي تعود في مجملها إلى القرون الغابرة، أين تشبعت المنطقة ببعض الميزات التي تتجلى في التحضيرات الحثيثة التي تجري في حيزها الاجتماعي والاقتصادي المتجلي بالأساس في تجفيف الفواكه كالبرقوق والمشمش والعنب وتحضير العجائن كالرشتة ومختلف المخبوزات وكل ما يصنع من دقيق القمح والشعير، والتي تعتبر ممارسات تقليدية من الماضي الذي يرافق حاضرنا.
تتمسك العائلات بولايات الغرب الجزائري وخاصة منها القاطنة بالأرياف بالعادات والتقاليد التي تسبق وترافق شهر رمضان الفضيل، ومنها تجهيز البيت وتنظيفه وغسل وتحضير كل المستلزمات المستعملة خلال هذا الشهر الفضيل مع الحرص على شراء أواني جديدة للطبخ والتقديم، كما تحرص العائلات على تحضير “التشيشة زرع”، فالعائلات التي لديها الشعير تقوم بطحنه وتوزيعه على الجيران، أما التي لا يتوفر لديها فتقوم بشرائه من المطاحن، إضافة إلى شراء التوابل على شكل حبوب وطحنها وتحضيرها بالطرق التقليدية “المهراز” كون التوابل المطحونة التي تباع بالمحلات لا تعتبر صحية بالنسبة للكثيرين وعرضة للغبار وتفقد الكثير من عناصرها وروائحها.
رمضان.. فرصة لإظهار التمسك بالهوية

تُظهر العائلات بولايات الغرب الجزائري تمسكها بالتقاليد المتوارثة، في كل مناسبة دينية أو اجتماعية، وخاصة في رمضان، حيث تمتزج المشاعر الروحانية والتقاليد الاجتماعية في شهر رمضان، الذي يعتبر موسما تتجدّد وتتقوى فيه صلة الأرحام، حيث تعبر الكثير من العائلات بغرب الوطن، على غرار ترابه كاملا، عن فرحتها بقدوم رمضان وتحرص على أن تكون هذه الفترة مليئة بالبركات والخير والتفاؤل، وتجتهد الأسر في التحضير لاستقباله، بمظاهر ومشاهد مختلفة، تعبيراً عن التمسك بالتراث الديني والاجتماعي.
مساجد تتزيّن لاستقبال المصلين

لا تقتصر تحضيرات الشهر الكريم على الاستعدادات المادية فحسب، بل تتعداها للاستعدادات الروحية والنفسية التي تعكس مدى تعلق الجزائريين بهذا الشهر الكريم ورغبتهم في التعبد والتهجد، فيقبل سكان ولايات الغرب الجزائري كغيرهم من الجزائريين على تنظيف المساجد وتزيينها، لتستقبل جموع المصلين خلال صلاة التراويح طيلة الشهر الكريم.
تقاليد عريقة تبعث طاقة إيجابـية
تولي العائلات بولايات الغرب الجزائري اهتماماً كبيراً لاستقبال رمضان بتنظيف المنازل وتزيينها، الأمر الذي يبعث في النفوس كمّا هائلا من الطاقة الإيجابية، وفيما كانت النساء تكتفين بالتنظيف صرن الآن يزين البيوت بالزخارف الإسلامية والفوانيس الملونة التي صارت متوفرة بالأسواق المحلية، على غير العادة، فتزيين البيوت بالفوانيس تقليد جديد لم يكن سابقا من مظاهر الاستعداد لشهر رمضان، غير أنه يعطي لمسة خاصة بهذه المناسبة.
تحضير التوابل.. نكهة المطبخ في رمضان

ولا يمكن للمرأة في الغرب الجزائري أن تفرط بأي شكل من الأشكال في تحضير التوابل والأعشاب العطرية بيدها، فهي تقتني كميات كافية من الأعشاب ذات النكهات الطيبة على غرار النعناع والحبق والفليو، التي تضاف إلى طبق الشوربة والحريرة.
غذاء وهوية

ولا تعدّ الأطباق التي تتزيّن بها موائد أهل ولايات الغرب الجزائري، مصدراً للغذاء فقط، بل تعبّر عن التراث الثقافي والاجتماعي للعائلات المحلية، فطبق الحريرة الذي تشتهر به منطقة الغرب الجزائري، هو سلطان المائدة الرمضانية والمناسبات العائلية، يفوح منه عبق التوابل والأعشاب المعطرّة، تتشارك تقليد تحضيره العائلات على اختلاف مستواها الاجتماعي، فطبق الحريرة، هو طبق الغني والفقير، خلاف طبق المحمّر بلحم الخروف مثلا الذي يعتبر أساسيا على الموائد الرمضانية، لكن لا تستطيع جميع العائلات توفيره دوريا على موائد إفطارها، حيث يستبدل طاجين المحمر بلحم الخروف عادة بطاجين الدجاج.
أطباق تأبى الزوال

تتمسك العائلات في الغرب الجزائري بتحضير بعض الأطباق في رمضان، ففي زمن التاكوس والبوراك التركي وغيرها من أصناف المملحات، لا تزال المعقودة حاضرة وتُسجل حضورها
وبقوة على الطاولة الرمضانية، وهي الطبق المفضل لدى العائلات هناك منذ عقود خلت وظلت إلى يومنا هذا تُكمّل الأصناف الأخرى التي تُزين المائدة الرمضانية بشكلها الدائري وحجمها المعتاد.
ولا تزال “المعقودة” حاضرة وبقوة في موسم 2025 وبنفس درجة الإقبال لدى عائلات الغرب الجزائري، حيث لاتزال ربة البيت تتمسك بهذا الطبق الشهي والمتجذر عبر تاريخ التراث اللامادي، دون أن يخضع لأي تعديل أو تغيير أو حتى يتأثر بالتغييرات الخارجية التي أضفت على الطبخ الجزائري لمسة سحرية خاصة لا يقاومها الكبير والصغير.
.. ومشروبات تقليدية لا تزحزح مكانتها أكبر “الماركات”

دأبت العائلات في مجمل ولايات الغرب الجزائري منذ زمن بعيد على إعداد خلال شهر رمضان الفضيل بعض المشروبات التقليدية التي تناقلتها الأمهات عن الجدات وتقدم عند الإفطار أو في السحور، خصوصا في فصل الصيف لمواجهة العطش أو مقاومة الساعات الطويلة للصيام ومن بينها “الخشاف” و”المحمضة” و”الشاربات”.
ويعتبر الخشاف من العصائر الرمضانية الشهيرة التي كانت تقدمها العائلات هناك في شهر رمضان الفضيل، خصوصا في وقت السحور نظرا لقيمته الغذائية العالية واحتوائه على نسبة كبيرة من السكريات.
أما عن أصل هذا المشروب فيعود إلى العهد العثماني، حيث تناقلته العائلات العربية عن العائلات التركية، وهو ما يفسر وجود نفس المشروب بنفس الاسم وطريقة التحضير في تركيا ومصر.
أما عن طريقة تحضير “الخشاف”، فيتم بوضع كمية من التمر والزبيب في كأس ونصف من الماء، ويضاف إليه كأس من السكر وثلاث ملاعق من ماء الزهر وقليل من القرفة على نار هادئة لمدة ساعة حتى يصبح خليطا متجانسا.
كما يمكن استبدال التمر والزبيب بالتفاح ليعطي المشروب ذوقا آخرا، كما يمكن إضافة عصير الليمون إليه والمكسرات كاللوز والبندق.
ويقدم هذا المشروب للعائلة والضيوف باردا عند السحور، وخصوصا مع الكسكس أو الطعام ويمكن شربه مع السفة أو المسفوف أو مزجه به ليقضي على العطش ويساعد على مقاومة فترات الصوم الطويلة، من خلال كمية السكريات الكثيرة التي يحتويها التمر أو الزبيب.
المحمضة… صنعة الجدات
وتعتبر المحمضة من المشروبات الرمضانية الصحية والمقوية ويتم تحضير مشروب المحمضة طيلة سنة كاملة، حيث تجمع الأمهات والجدات وربات البيوت مختلف الأعشاب والنباتات العطرية المعروفة بالمنطقة ويقمن بتجفيفها وطحنها لتضاف إليها الروينة والتوابل كالنوخة والزعتر والحلبة والعرعار والسكنجبير وحبة الحلاوة والكروية والكمون.
وعشية الشهر الفضيل تؤخذ كمية من الماء وتوضع فيها ملعقة من “الروينة” ونصف ملعقة من الخميرة ويتم وضعها لتتخمر ليلة واحدة ويضاف إليها في اليوم الموالي الأعشاب العطرية والتوابل المطحونة، ويعتبر هذا المشروب من المشروبات المفيدة للمعدة والقولون ويساعد أيضا على مقاومة العطش وقد اعتادت العائلات بمناطق الغرب وخاصة أريافها على تقديمه للشرب في الأواني الطينية من أجل إضفاء طابع خاص عليه.
الشاربات…الحاضر الدائم

لا تزال الشاربات تحافظ على مكانتها خلال شهر رمضان الفضيل.
وبالرغم من وجود عصائر ومشروبات عصرية مختلفة النكهات والأذواق تملأ المحلات والأسواق والمراكز التجارية، لا تزال العائلات في مدن الغرب عموما تفضل تحضير “الشاربات” في المنزل بشكلها التقليدي أو اقتنائها من بعض المحلات الخاصة بالمشروبات والحلويات التقليدية.
ورغم محاولة العديد من المتعاملين الاقتصاديين المختصين في إنتاج المشروبات صناعة وتسويق “الشاربات” بشكل حديث إلا أن الإقبال عليها ضعيف بالمقارنة مع الشاربات التقليدية.
فرمضان يعني التمسك بكل ما هو عريق والعودة لكل ما هو متعلق بالتقاليد والعادات التي تعد سمة المنطقة وتميزها عن غيرها من المناطق التي تشكل في مجملها بانوراما جمالية لوطن بحجم قارة.
ق. م