حين تتجاوز باريس الأعراف.. الجزائر تُعيد ترسيم الاحترام

روتايو يُصعّد.. والجزائر تشدد اللهجة

روتايو يُصعّد.. والجزائر تشدد اللهجة
  • روتايو الوزير يهاجم الجزائر للوصول إلى قصر الإليزيه

  • “مبدأ المعاملة بالمثل”.. الدبلوماسية الجزائرية التي لا تتغير

 

حين يُمنع أعوان دبلوماسيون جزائريون، معتمدون رسميا، من دخول منطقة الحقائب الدبلوماسية في المطارات الباريسية، فإنّ الأمر لا يمكن تصنيفه إلا كـ”استفزاز متعمد لا علاقة له بالبروتوكولات، ويخرق صراحة اتفاقية فيينا”.

الجزائر، التي لم ولن تفاجئها بعد الآن نوايا باريس العدائية، رأت في هذا القرار الفرنسي خطوة تصعيدية غير بريئة، تم اتخاذها – مرة أخرى – من أعلى هرم وزارة الداخلية، بإمضاء وزير اسمه برونو روتايو. رجل لا يجهل الأعراف الدبلوماسية، بل “يتقن فن اختراقها لإرسال رسائل عدوانية مغطاة بالقانون”. خلف هذا الحادث، تتكشف ملامح مشروع سياسي فرنسي يريد استخدام الجزائر كورقة داخلية، والتعامل معها كـ”خصم انتخابي لا كشريك دولي”. غير أن الجزائر الجديدة، التي اعتادت الرد بالحجة، رفعت سقف المواجهة: “المعاملة بالمثل… فورا ودون تردد”. ما حدث في باريس ليس سوء تنسيق بين وزارتين، بل تجلٍّ صريح لما يمكن وصفه بـ”سياسة ممنهجة من طرف روتايو لإعادة فرنسا إلى مربع الهيمنة والوصاية”، وهو ما لن تسمح به الجزائر، لا في الجو ولا في الأرض. لم يكن ما حدث في المطارات الباريسية مجرّد “سوء فهم إداري” أو “إجراء أمني ظرفي”، وإنما خطوة مدروسة ومقصودة مست سيادة الدولة الجزائرية في صميم رموزها الدبلوماسية. فوفقا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961، وتحديدا في مادتها السابعة والعشرين، تُكفل للبعثات الدبلوماسية الحق المطلق في “استلام الحقيبة الدبلوماسية من ربان الطائرة بصورة مباشرة وحرة”، دون قيود أو عراقيل. ما وقع يُعد “خرقا واضحا لهذه المادة، ويضرب الأعراف الدبلوماسية في مقتل”. الجزائر، التي رصدت التصرف الفرنسي منذ لحظاته الأولى، تحرّكت بسرعة على مستويين: محليا، من خلال استدعاء القائم بأعمال سفارة فرنسا في الجزائر وطلب توضيحات عاجلة، ودوليا، عبر تواصل القائم بأعمال سفارة الجزائر في باريس مع وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية. وجاء الرد الفرنسي محرجا: “القرار صدر من وزارة الداخلية دون علم الخارجية”، في إقرار ضمني بغياب التنسيق داخل المؤسسات الفرنسية، أو – وهو الأرجح – بتعمد العزل المتعمد لصنّاع القرار الدبلوماسي. هذه الحادثة لم تكن اختبارا لمستوى التنسيق بين الوزارات الفرنسية، بل اختبارا لمدى قدرة الجزائر على فرض احترام أعرافها وحقوقها السيادية. وقد جاء الرد الجزائري في الوقت المناسب، وبالحدة التي تليق بالمساس بكرامة دولة، حين أعلنت وزارة الخارجية أنها “ستطبّق مبدأ المعاملة بالمثل بشكل صارم وفوري”، وهو ما يعد رسالة قوية بأن “زمن التساهل قد انتهى”. في فحوى البيان الرسمي الجزائري، ظهرت لهجة سيادية واضحة: “انعدام الشفافية… وغياب الإشعار الرسمي… وتجاوز غير مقبول للأعراف الدبلوماسية”، وهي عبارات تعكس إدراكا عميقا بأن ما جرى لا يمكن فصله عن سياق أوسع من الاستفزازات المتتالية التي تقودها دوائر محددة داخل الحكومة الفرنسية. الواقعة، في عمقها، تُمثّل منعطفا نوعيا في طريقة تعامل الجزائر مع فرنسا. لم يعد الرد الجزائري يُصاغ بلغة الإدانة أو التعبير عن الاستياء، بل أصبح فعلا عمليا يقول بوضوح: “كل إساءة ستُقابل بإجراء مكافئ… لا أكثر ولا أقل”. وفي هذا، تؤسس الجزائر لمرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، عنوانها: الكرامة قبل المجاملة.

 

الوزير الذي يشعل النار.. من هو برونو روتايو؟

وإذا كانت الجزائر قد ردّت بصرامة على ما اعتبرته “اعتداء سافرا على الأعراف الدولية”، فإنّ النظر إلى خلفية هذا التصرف يقودنا مباشرة إلى شخصية تقف في قلب العاصفة: وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو، لم يكن صدفة أن يخرج هذا القرار من وزارته دون علم نظيرتها الخارجية، كما لم يكن صدفة أن يتزامن مع سلسلة من التوترات المدبرة والمواقف المستفزة، التي طالت الجزائر في أكثر من مناسبة. “روتايو ليس مجرد وزير… إنه تجسيد لرؤية سياسية تنظر إلى الجزائر بعدسة الهيمنة والاستفزاز”. روتايو، القادم من تيار اليمين المحافظ، وصل إلى وزارة الداخلية وهو يجر وراءه سجلا حافلا بالمواقف المتشددة تجاه المهاجرين، وخصوصا الجالية المغاربية، التي لطالما كانت هدفا مباشرا في خطاباته. الرجل لم يُخفِ يوما عداءه للجزائر، وكان من أشدّ المؤيدين لتقليص منح التأشيرات، وللرد القاسي على رفض الجزائر استعادة بعض رعاياها، وهي قضايا وظّفها بمهارة في مشروعه السياسي الطامح للوصول إلى قصر الإليزيه. “روتايو لا يتحرك بدافع الأمن، وإنما بدافع الطموح… ولو كان على حساب الأعراف والاتفاقيات الدولية”. وفي هذا السياق، تبدو حادثة الحقيبة الدبلوماسية “مناورة مدروسة” أراد من خلالها الوزير توجيه ضربة رمزية للجزائر، واختبار ردّ فعلها، وإرسال إشارات سياسية للداخل الفرنسي بأنه “الرجل القوي الذي لا يرضخ”. هذا الخطاب هو ذاته الذي استعمله تيار اليمين المتطرف في حملاته، وها هو يُستنسخ الآن من داخل مؤسسات الدولة. ما يلفت الانتباه، أن هذا ليس أول احتكاك دبلوماسي تسبب فيه روتايو منذ توليه حقيبة الداخلية. فقد سبق له أن صعّد ضد الجزائر بعد أن رفضت استقبال قائمة فرنسية تضم أسماء جزائريين قالت باريس إنهم يشكلون “خطرا”، وهو ما اعتبرته الجزائر حينها خرقا لسيادتها وتدخّلا في شؤونها الداخلية. “ذات اليد التي تضغط على التأشيرات، هي التي تمنع الحقائب الدبلوماسية… والتوقيع واحد: روتايو”. وهكذا، لا يمكن فصل ما حدث في المطارات الباريسية عن المشروع الشخصي لهذا الوزير. إنّه يستعمل موقعه الوزاري “كمنصة لإعادة صياغة علاقة فرنسا بمحيطها المغاربي”، من منطلق استعلائي، لا يحترم تاريخا مشتركا ولا مستقبلا متوازنا. وبرونو روتايو، بهذه التصرفات، لا يُسيء فقط للجزائر، بل يُقحم فرنسا في منطق المواجهة المفتوحة، في لحظة تحتاج فيها إلى العقل لا إلى العضلات.

 

تصعيد ممنهج أم حسابات انتخابية؟ روتايو يرسم معالم الفتنة

وحين نتتبع خلفيات هذه التجاوزات المتكررة، سرعان ما يتضح أن ما يفعله برونو روتايو ليس عشوائيا ولا معزولا، وإنما يدخل في إطار “تصعيد ممنهج”، تُرسم ملامحه بدقة داخل الأروقة السياسية الفرنسية، وبالأخص لدى تيار يريد استعادة أمجاد الهيمنة القديمة عبر اللعب على ورقة العلاقات مع الجزائر. “روتايو لا يتعامل مع الجزائر كدولة ذات سيادة، بل كمادة انتخابية قابلة للتوظيف في الداخل الفرنسي”، وهو ما يجعل من كل أزمة مفتعلة، أداة لحشد أصوات المتشددين. في الواقع، لا يمكن قراءة قرارات روتايو خارج سياق التحضير المبكر للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2027. الرجل يُقدّم نفسه منذ أشهر كصوت اليمين الصلب، الذي يريد استعادة “هيبة الدولة الفرنسية” بحسب تعبيره، ويعتبر أن ملفات الهجرة والذاكرة والهوية هي الطريق الأقصر للوصول إلى قصر الإليزيه. ولهذا، فإن “الجزائر تصبح في خطابه شماعة جاهزة، يُعلّق عليها كل ما يريد أن يسمعه الناخب الغاضب من الداخل الفرنسي”. الملفت أن التصعيد ضد الجزائر لم يبدأ مع حادثة الحقيبة الدبلوماسية، وإنما هو مجرد حلقة في سلسلة طويلة من الاستفزازات، بدأها روتايو بتشديد التأشيرات، مرورا بربط التعاون الأمني بملفات داخلية، وصولا إلى تصريحات علنية ضد الجالية الجزائرية. “كلما اقترب استحقاق سياسي في فرنسا، ارتفعت نبرة روتايو تجاه الجزائر”، في معادلة تُوظف العلاقات الخارجية كوقود للخطاب الانتخابي. وهنا تكمن الخطورة، فحين تتحوّل السياسات الدبلوماسية إلى أدوات للمزايدة الداخلية، تصبح العلاقات بين الدول رهينة لأجندات انتخابية ظرفية، لا لمبادئ ثابتة. وهو ما ترفضه الجزائر جملة وتفصيلا، معتبرة أن علاقاتها الخارجية “لا تُقاس بحسابات صناديق الاقتراع الفرنسية”، وإنما بميزان الندية والاحترام المتبادل. إن الجزائر تُدرك تماما أن خصومتها الحقيقية ليست مع الشعب الفرنسي، ولا مع مؤسساته، بل مع “نخبة سياسية فرنسية اختارت توجيه البوصلة نحو التوتر”، طمعا في مكاسب انتخابية مؤقتة. وبرونو روتايو، بهذا المنطق، لا يفتعل أزمة بقدر ما يرسم فتنة، قد يدفع ثمنها مستقبل العلاقة بين بلدين تجمعهما ذاكرة مشتركة، وتُفرقهما اليوم “شهوة السلطة لدى وزير مهووس بالصعود السياسي”.

 

الجزائر الجديدة لا تصمت.. والمعاملة بالمثل عنوان المرحلة

وفي مواجهة هذا التصعيد السياسي المقصود، لم تتردد الجزائر لحظة في رسم حدودها السيادية بوضوح وصرامة. فالرد الجزائري لم يأتِ بصيغة تنديد أو احتجاج، وإنما بصيغة تنفيذ مباشر لما يُعرف في الأعراف الدولية بـ”مبدأ المعاملة بالمثل”، وهو ما حمل في طياته رسالة حازمة تقول بوضوح: “من يتجاوز الخطوط الحمراء، سيلقى الرد في المكان ذاته وبالأسلوب ذاته”. لم تعد الجزائر تمضي وقتها في تأويل نوايا باريس، وباتت تُحاكمها على أفعالها بميزان السيادة لا المجاملة. الإعلان الرسمي عن هذا القرار حمل عبارات غير مسبوقة في اللهجة الدبلوماسية الجزائرية، مثل: “انعدام الشفافية”، “غياب الإشعار الرسمي”، “انتهاك صريح لاتفاقية فيينا”، “تهديد مباشر لحسن سير البعثة الدبلوماسية”، وهي مفردات تكشف أن الجزائر لم تعد تكتفي بالتوضيح أو الاستفسار، بل تُشهر أدوات الرد الفعلي، مدفوعة بمنطق الدولة لا منطق الانفعال. فكما جاء في البيان الرسمي: “تحتفظ الجزائر بحقها في اللجوء إلى جميع السبل القانونية المناسبة، بما في ذلك إخطار الأمم المتحدة”، وهو تهديد لا يُطلق عبثا. الجزائر الجديدة، التي كرّسها الرئيس عبد المجيد تبون في خطابه الدبلوماسي منذ 2020، اختارت أن تكون “فاعلا لا مفعولا به”، وأن تمارس سيادتها وفق قواعد القانون الدولي، لا بمنطق ردود الفعل المترددة. الرد السريع على ما حدث في المطارات الباريسية يؤكد أن “الزمن الذي كانت تُطوى فيه التجاوزات الدبلوماسية الفرنسية في الملفات المغاربية، قد ولى”. اليوم، كل تجاوز سيُقابَل برد مكافئ، وكل استعلاء سيقابل بحزم سيادي. اللافت أن هذا الرد لم يكن موجها لفرنسا كدولة بقدر ما كان موجها لدوائرها المتشددة، التي تصنع الأزمة وتختبئ وراء تعقيدات البروتوكول. الجزائر تعرف جيدا أن العلاقة مع باريس أعمق من روتايو، وأن الشعبين تجمعهما روابط التاريخ والثقافة، لكنها أيضا تعرف أن الاستقواء على الأعراف لن يُكسر إلا بالقوة الهادئة. وبذلك، تُعيد الجزائر تعريف معنى الردّ الدبلوماسي في علاقاتها الخارجية، ليس عبر البيانات فقط، وإنما عبر الأفعال الميدانية. وهنا يتحول الحدث من مجرد أزمة حقائب إلى “درس سيادي واضح”، موجه لكل من يعتقد أن الجزائر ستصمت عن أي انتقاص من كرامتها. فـ”الدولة استعادت قرارها الاقتصادي وقرارها الدبلوماسي… بنديّة لا تقبل التنازل”.

 

أزمة ليست مع فرنسا.. بل مع عقلية استعمارية لم تنته

وإذا كانت الجزائر قد سمّت الأشياء بمسمياتها، وردّت على الاستفزاز بما يليق بدولة مستقلة ذات سيادة، فإنّ جوهر الأزمة أعمق من مجرد حادث دبلوماسي. الحقيقة التي باتت أكثر وضوحا مع كل أزمة جديدة، هي أن المشكلة ليست مع فرنسا كأمة أو شعب، بل مع “عقلية استعمارية لا تزال تنبض داخل مؤسساتها”، وتُطلّ برأسها كلما تحركت الجزائر خارج حدود التبعية القديمة. “روتايو ليس استثناء في هذا المشهد، بل مجرد عنوان صريح لعقلية لم تتقبل حتى اليوم أن الجزائر لم تعد مقاطعة فرنسية”. الاستفزاز الأخير يعكس هذه العقلية بصورتها الأكثر فجاجة. فعندما يمنع دبلوماسيون جزائريون من القيام بمهامهم في أرض يُفترض أنها صديقة، وداخل مؤسسات يُفترض أنها تحترم القواعد الدولية، فإنّ الأمر يتجاوز حدود الإجراء الأمني، ليكشف عن منطق يرى في الجزائر “دولة يجب تطويعها”، لا شريكا متكافئا. إنّ من يقف خلف هذا القرار لا يرى في اتفاقية فيينا مرجعا قانونيا، بل “قيدا يُمكن تجاوزه متى اقتضت الحسابات السياسية الداخلية”. المشكلة في فرنسا اليوم تكمن في هذا التناقض العميق داخل مؤسساتها: خارجية تتحدث عن بناء شراكة استراتيجية مع الجزائر، وداخلية تقود حملات عدائية ميدانية ضدها. وفي هذا التناقض، تضيع الحقيقة، وتُفقد الثقة، وتُغلق أبواب التهدئة. الجزائر لا تطلب من فرنسا أن تُغيّر سياستها، بل فقط أن توحّد خطابها، وأن تتخلص من تلك النظرة التي ترى في الجزائر “ظلا استعماريا يجب التحكم فيه كلما رفع صوته”. وبينما يراهن بعض السياسيين الفرنسيين على لعبة التجاهل والتمرير، تراهن الجزائر على اليقظة والندية. وما دامت العقليات القديمة تحكم مفاصل القرار في باريس، فإن العلاقات ستظل معلقة على حبال التوتر. ولن تُحل الأزمة فعليا إلا حين تُدفن تلك العقلية التي ترى في الجزائر مجرد هامش تاريخي، لا دولة تصنع تاريخها. فـ”أزمة الحقيبة لم تفضح نوايا وزارة، بل أخرجت من الظل ذهنية استعمارية لا تزال تُحرّك أصابعها خلف الستار”.

 

الجزائر ترسم خطوطها الحمراء

وبينما تمضي باريس في مواقفها المتخبطة، تتحرك الجزائر بثبات لافت يرسم ملامح توجه دبلوماسي جديد، يُبنى على الوضوح لا التنازل، وعلى السيادة لا المداراة. لم يعد في خطاب الجزائر ما يُخفي الحرج أو يطلب تفسيرات، بل هناك موقف صريح يقول: “نحن دولة لا تُختبر، وخطوطنا الحمراء تُرسم بالفعل قبل البيان”. حادثة الحقيبة الدبلوماسية، وإن بدت تفصيلا بروتوكوليا، إلا أنها أظهرت قدرة الجزائر على تحويل الاعتداء الرمزي إلى فرصة استراتيجية لتأكيد كيانها السيادي أمام الداخل والخارج معا. هذا الموقف لا يتوقف عند مجرد تطبيق “مبدأ المعاملة بالمثل”، بل يتجاوزه إلى بناء تصور أوسع لعلاقات الجزائر مع الشركاء الدوليين، وخاصة الدول التي لا تزال تعتقد أن ذاكرة الاستعمار تمنحها امتيازات فوق القانون. الجزائر اليوم تعيد ترسيم الحدود السياسية مع كل من يحاول تقزيمها، وتعلن صراحة أن “التاريخ لا يورّث الحق في الإهانة”، وأن الشراكات المستقبلية لن تبنى على المجاملة، بل على التوازن الصارم والاحترام الصريح. ما بدأ كإجراء غامض في مطار فرنسي، تحوّل إلى لحظة سياسية كاشفة لعُمق الأزمة بين الجزائر وفرنسا، لا على مستوى الملفات الظرفية، وإنما على مستوى الرؤية والموقع والاحترام. حادثة الحقيبة الدبلوماسية كانت “فعلا سياديا معكوسا” يعبّر عن رغبة داخل بعض الدوائر الفرنسية في تقليص مكانة الجزائر، أو على الأقل تذكيرها بـ”حدود الدور” الذي يُراد لها أن تبقى داخله. غير أن الرد الجزائري أتى مختلفا: “صامتٌ في بدايته… صارمٌ في أثره”. برونو روتايو، الاسم الذي تصدّر هذه الأزمة، لم يعد مجرد وزير داخلية، بل بات رمزا للمنهج الفرنسي القديم في التعامل مع الجزائر: الاستفزاز، ثم الإنكار، ثم محاولة الالتفاف على الأزمة عبر التبرير. إلا أن الجزائر الجديدة لا تقبل هذا المسار بعد اليوم. لقد وُضعت النقاط على الحروف، وصار لكل تجاوز ثمن، ولكل إساءة جواب. ولعل الدرس الأهم في هذه الحادثة ليس في تفاصيلها، بل في مآلاتها. ففرنسا، التي ظنت أن بإمكانها الاستمرار في ازدواجية الخطاب، فوجئت بأن الجزائر اختارت الوضوح التام، والمواجهة بالحق. لم يعد هناك مجال للغموض ولا مساحة للمراوغة. الجزائر وضعت معايير جديدة للعلاقة، وقالت بلغتها الخاصة: “السيادة لا تُساوَم..”. وبينما يراهن البعض على مرور الوقت لتهدئة التوتر، تراهن الجزائر على تثبيت معادلة جديدة تُبنى على الندية والكرامة المتبادلة. فما بعد هذه الأزمة، لن يكون كما قبلها. لقد تم كسر الصمت، وارتفعت نبرة السيادة، وصارت العلاقة مع باريس تمرّ أولا عبر بوابة الاحترام، لا بوابة التاريخ.