أنوار من جامع الجزائر

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ – الجزء الأول –

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ – الجزء الأول –

يقول الحق سبحانه: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” الأحزاب: 23. آية جليلة ترسم ملامح الصادقين: رجال صدقوا في العهد، ووفوا في الوعد، فلم تزلزلهم الفتن، ولم تغيرهم المحن، بل ظلوا كالجبال الراسيات أمام العواصف، وكالأشجار الضاربة بجذورها في وجه الرياح العاتية. فمنهم من ختم له بالشهادة، ومنهم من ينتظر وعد الله، ثابتا صابرا مرابطا على العهد، “وما بدلوا تبديلا”. أيها المؤمنون: إن الصدق ليس شعارا يرفع، ولا قولا يردد، بل هو حقيقة تثبتها المواقف، وثبات يتجلى عند الشدائد. الصادق مع الله هو من وفى بعهده، وصبر على البلاء، واستقام على الطريق، لا تغريه دنيا، ولا تضعفه محنة، ولا ترهبه قوة عدو. تأملوا سيرة نبيكم ﷺ، أصدق الناس عهدا: يوم صبر على أذى قريش، ويوم هاجر مهاجر الصابرين، ويوم جاهد جهاد الصادقين، حتى أدى الأمانة وبلغ الرسالة. وتأملوا أصحابه الكرام، كيف كتبوا بدمائهم صفحات الصدق والوفاء، فكانوا قدوة للأمة على مر الأزمان. فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، أول سفير للإسلام، ترك نعيم مكة وزخرفها، وحمل راية الدعوة، ثم لقي الله شهيدا في أحد، فصار رمزا للصدق والوفاء. وهذا أنس بن النضر، لما فاتته بدر قال: “لئن أشهدني الله مشهدا مع رسول الله ليرين الله ما أصنع”، فصدق، فنال الشهادة في أحد. وهذا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، أسد الله وأسد رسوله، نصر الإسلام يوم كان في أشد الحاجة إلى النصير، وثبت يوم أحد حتى لقي الله شهيدا، ومثل بجسده الطاهر، وبقيت تضحيته عنوانا للشجاعة والوفاء. وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فارس مؤتة، حمل الراية يوم تقطعت يداه، فضمها إلى صدره حتى استشهد، فأبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، فسمي “الطيار”، وصار مثالا للفداء والإقدام. وكذلك كان رجال الجزائر الأبطال في ثورة نوفمبر المباركة، أمثال العربي بن مهيدي، وعميروش، ومصطفى بن بولعيد، وديدوش مراد، وغيرهم من العظماء. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فبذلوا الأرواح والدماء، ووقفوا في وجه المستدمر الغاشم، فنفروا خفافا وثقالا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وتتابعت قوافل الشهداء، فارتقى منهم مليون ونصف المليون شهيد. رجال كتبوا بدمائهم الطاهرة صفحات من نور، ستبقى خالدة في ذاكرة الأمة، وشاهدة على صدقهم ووفائهم وعزيمتهم التي لا تلين. فيا أحفاد الشهداء، إن دماءهم أمانة في أعناقنا، فهل نكون أوفياء كما كانوا؟ فلنحم هذه الأرض الطيبة من الفتن، ونعمرها بالبناء والعمل الصالح، ونجتمع على كلمة سواء، ونشكر الله على نعمة الحرية والاستقلال. قال تعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”. واصدقوا – عباد الله – في أقوالكم وأعمالكم، فإن الصدق سبيل النجاة، وقد وعد الله الصادقين جنات النعيم، فقال جل شأنه: “قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر