معرض الإنتاج يكشف ملامح المرحلة

“صُنع في الجزائر”.. خيار دولة

“صُنع في الجزائر”.. خيار دولة
  • من الإنتاج لتغطية السوق إلى رهان التصدير والمنافسة

  • حضور رئاسي يحمل رسالة دعم واضحة للمنتج الوطني

يكشف معرض الإنتاج الجزائري، الذي احتضنه قصر المعارض بالصنوبر البحري بحضور رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، عن تحوّل واضح في موقع الإنتاج الوطني داخل الرؤية الاقتصادية للدولة، حيث لم يعد يقتصر على تلبية حاجيات السوق المحلية، وبات يعكس مسارا متدرجا نحو بناء قاعدة إنتاجية قادرة على خلق الثروة، توفير مناصب الشغل، والتموضع في الأسواق الخارجية.

الطبعة الثالثة والثلاثون للمعرض بدت أقرب إلى قراءة ميدانية لحصيلة خيار استراتيجي قائم على تثمين المنتوج الجزائري، ودعم المؤسسات الصناعية والتحويلية، وإبراز قدرتها على المنافسة، في سياق تتجه فيه السياسات العمومية إلى جعل الإنتاج رافعة أساسية للنمو الاقتصادي وصناعة صورة جديدة للجزائر كبلد منتج ومصدّر، لا مجرد سوق استهلاكية.

 

الإنتاج الجزائري.. رافعة للتشغيل وبناء القيمة

لم يعد الحديث عن الإنتاج الجزائري منفصلا عن سؤال التشغيل، إذ أظهر معرض الإنتاج الجزائري، من خلال تنوّع المؤسسات المشاركة وحجمها، أن الرهان على التصنيع المحلي بات يُترجم ميدانيا إلى مناصب عمل حقيقية ومستدامة. فالمؤسسات الصناعية والتحويلية التي عرضت منتجاتها لا تمثل فقط وحدات إنتاج، بل منظومات تشغيل واسعة تضم آلاف العمال والمهندسين والتقنيين، ما يجعل من الإنتاج الوطني أحد أهم أدوات امتصاص البطالة وبناء الاستقرار الاجتماعي. ويبرز هذا البعد بشكل خاص، في المؤسسات التي انتقلت من مرحلة النشاط المحدود إلى التوسعة الصناعية، حيث أصبح الاستثمار في خطوط إنتاج جديدة مرتبطًا مباشرة بخلق فرص عمل إضافية، سواء داخل المصنع أو عبر سلاسل التموين والخدمات المرتبطة به. فكل توسعة صناعية تعني وظائف مباشرة، وأخرى غير مباشرة، تمتد من النقل إلى الصيانة والتوزيع، وهو ما يعكس الأثر المضاعف للإنتاج على النسيج الاجتماعي والاقتصادي. كما يعكس حضور قطاعات متعددة داخل المعرض، من الصناعات الغذائية إلى الميكانيكية والصلب والسيراميك، تنوعًا في فرص التشغيل من حيث التخصصات والمؤهلات، ما يسمح بإدماج فئات مختلفة من اليد العاملة، ويحدّ من التركّز في قطاعات بعينها. هذا التنوع يشكّل عنصر قوة، لأنه يخلق سوق عمل أكثر توازنًا، ويمنح الشباب خيارات مهنية أوسع داخل الوطن بدل الارتهان لفرص محدودة أو للهجرة. وفي هذا السياق، يبدو الإنتاج الجزائري اليوم مرتبطًا أكثر من أي وقت مضى بمفهوم القيمة المضافة، حيث لم يعد الهدف مجرد تشغيل عددي، بل خلق وظائف ذات محتوى تقني ومعرفي أعلى، تواكب تطور الصناعة وتفرض الاستثمار في التكوين والتأهيل. وهو ما يجعل من التشغيل الناتج عن الإنتاج عاملًا لتحسين الكفاءة والمهارات، لا مجرد حل ظرفي لمشكلة اجتماعية. من هذا المنظور، يبرز المعرض كدليل على أن خيار الدولة في دعم الإنتاج الوطني يتجاوز الحسابات الاقتصادية الضيقة، ليطال البعد الاجتماعي بعمق، إذ يصبح المصنع فضاءً للتشغيل، والتكوين، والاستقرار، وتتحول المؤسسة المنتِجة إلى شريك فعلي في التنمية. وهنا، يبرز الإنتاج الجزائري كأحد أهم مفاتيح بناء اقتصاد يخلق الثروة ويوزّع أثرها داخل المجتمع، بدل الاكتفاء بدور المستهلك في دورة اقتصادية مغلقة.

 

من تلبية السوق المحلية إلى منطق التصدير والمنافسة

الإنتاج الجزائري لم يعد موجّهًا حصريًا لتغطية الطلب الداخلي، كما كان الحال في مراحل سابقة، بل بدأت ملامح تحوّل واضحة نحو منطق التصدير، وهو ما عكسه معرض الإنتاج الجزائري من خلال حضور مؤسسات أعلنت صراحة عن ولوجها أسواقًا خارجية، أو عن استعدادها لذلك. هذا التحوّل يُقرأ كنتيجة لمسار طويل من التأهيل، وتحسين الجودة، وضبط التكاليف، بما يسمح للمنتج الجزائري بمغادرة منطق “الاستهلاك المحلي المحمي” إلى فضاء المنافسة الإقليمية والدولية. ويكشف هذا التوجه، أن مرحلة الاكتفاء الذاتي، رغم أهميتها، لم تعد هدفًا نهائيًا، بل محطة انتقالية نحو مرحلة أكثر تعقيدًا، تقوم على البحث عن أسواق جديدة، وبناء شبكات توزيع خارجية، والتكيف مع معايير صارمة تفرضها التجارة الدولية. فالمنتج الذي يُصدَّر لا يُقاس فقط بقدرته على الإنتاج، بل بمدى احترامه لمعايير الجودة، والتغليف، والموثوقية، وهي عناصر بدأت تظهر بشكل متزايد في عروض المؤسسات المشاركة في المعرض. كما أن الانتقال نحو التصدير يفرض على المؤسسة الجزائرية تغييرًا في العقليات، من منطق “ننتج ما يُطلب محليًا” إلى منطق “ننتج ما يمكن أن ينافس عالميًا”. وهو تحوّل ثقافي بقدر ما هو اقتصادي، يتطلب استثمارًا أكبر في الابتكار، والتطوير المستمر، ومتابعة تطور الأسواق الخارجية. ويُعدّ هذا التحول أحد المؤشرات الإيجابية على نضج النسيج الصناعي، وقدرته على تجاوز الحماية المحلية دون أن يفقد توازنه. وفي هذا الإطار، يكتسي حضور الدولة، ممثلة في أعلى هرم السلطة، دلالة خاصة، إذ يُفهم كرسالة دعم سياسي لمسار التصدير، وتأكيد على أن ولوج الأسواق الخارجية لم يعد خيارًا ثانويًا، بل رهانًا وطنيًا. فالتصدير لا يخص المؤسسة وحدها، بل يعكس صورة البلاد الاقتصادية، ويُسهم في تنويع مصادر العملة الصعبة، وتقليص التبعية للموارد التقليدية. هكذا، يظهر معرض الإنتاج الجزائري كمنصة تُبرز هذا الانتقال التدريجي من منطق السوق المحلية إلى أفق أوسع، حيث يصبح “صُنع في الجزائر” عنوانًا للمنافسة لا مجرد علامة منشأ. وهو مسار، وإن كان لا يزال في طور البناء، إلا أنه يعكس إرادة واضحة لجعل الإنتاج الوطني فاعلًا في الاقتصاد العالمي، لا متلقّيًا لشروطه فقط، بل مشاركًا في صياغة حضوره داخله.

 

الصناعة الثقيلة والتحويلية.. قاطرة الإنتاج الوطني

وتُعدّ الصناعة الثقيلة والصناعات التحويلية، أحد الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها أي اقتصاد يسعى إلى بناء قاعدة إنتاجية صلبة، وهو ما عكسه معرض الإنتاج الجزائري من خلال حضور مؤسسات كبرى تنشط في مجالات الحديد والصلب، الميكانيك، السيراميك، والطاقة. هذا الحضور لا يُقرأ فقط من زاوية حجم الاستثمارات، بل من حيث الدور المحوري الذي تلعبه هذه الصناعات في تحريك باقي القطاعات، وربط الإنتاج بسلاسل قيمة متكاملة تمتد من المادة الأولية إلى المنتوج النهائي. وتكشف هذه القطاعات، عن تحوّل نوعي في فلسفة الإنتاج، حيث لم يعد التركيز منصبًا على النشاط الصناعي المعزول، بل على بناء منظومات صناعية قادرة على توفير مدخلات محلية، وتقليص الاعتماد على الاستيراد، وتعزيز التكامل بين المؤسسات. فالصناعة الثقيلة، بما توفره من مواد أساسية، تشكّل قاعدة انطلاق للصناعات التحويلية، التي بدورها تضيف قيمة مضافة أعلى، وتفتح المجال أمام تنويع المنتجات وتوسيع الأسواق. كما أن تطور الصناعات التحويلية يعكس قدرة الاقتصاد الوطني على استيعاب التكنولوجيا، وتطوير الكفاءات، ورفع مستوى التحكم في مسارات الإنتاج. فالانتقال من تصدير المواد الخام أو شبه المصنعة إلى تحويلها محليًا يعني الاحتفاظ بجزء أكبر من القيمة داخل الاقتصاد، وخلق فرص تشغيل أكثر تخصصًا، وتعزيز تنافسية المنتج الجزائري في الأسواق الخارجية. وفي هذا السياق، تبرز أهمية الاستثمارات المرتبطة بالبنى التحتية الصناعية، من مناطق نشاط، ومجمعات صناعية، وسلاسل لوجستية، باعتبارها عناصر مكملة لا غنى عنها لنجاح هذا المسار. فالصناعة الثقيلة لا تزدهر دون محيط داعم، والصناعات التحويلية لا تحقق مردودها الكامل دون شبكات نقل وتخزين وتوزيع فعّالة، وهو ما يجعل الرهان على هذه القطاعات رهانًا طويل المدى يتطلب تنسيقًا دائمًا بين مختلف الفاعلين. من هنا، يظهر المعرض كمرآة لهذا التحول، حيث لا يقتصر على عرض منتجات نهائية، بل يكشف عن بنية إنتاجية آخذة في التشكل، تقودها الصناعة الثقيلة وتستثمرها الصناعات التحويلية. وهو مسار يعكس إرادة واضحة للانتقال من اقتصاد يعتمد على الاستيراد إلى اقتصاد يصنع مادته، ويحوّلها، ثم يوجّهها نحو السوق، بما يضع الإنتاج الجزائري في موقع القاطرة الحقيقية للتنمية الاقتصادية.

 

صورة الجزائر الصناعية.. المنتج كسفير اقتصادي

لم يعد التصدير مسألة أرقام وحصيلة تجارية فقط، بل تحوّل تدريجيًا إلى أداة لصناعة الصورة الاقتصادية للبلاد، حيث أصبح المنتج الجزائري يحمل معه رسالة غير مباشرة عن مستوى الصناعة، جودة الإنتاج، وقدرة المؤسسات الوطنية على احترام المعايير الدولية. وفي هذا الإطار، عكس معرض الإنتاج الجزائري بوضوح أن “صُنع في الجزائر” لم يعد موجّهًا للاستهلاك الداخلي فحسب، بل بات مؤهلًا لتمثيل البلاد في الأسواق الخارجية، كواجهة صناعية واقتصادية متكاملة. وتكتسي هذه الصورة، أهمية خاصة في ظل التحولات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، حيث لم تعد الدول تُقيَّم فقط بمواردها الطبيعية، بل بقدرتها على الإنتاج والتصدير والتكيّف مع سلاسل القيمة الدولية. فالمنتج الذي يجد طريقه إلى أسواق خارجية، سواء في إفريقيا أو أوروبا أو غيرها، يساهم في تغيير النظرة النمطية، ويُعيد تقديم الجزائر كبلد صناعي قادر على المنافسة، لا كمجرد سوق أو مصدر مواد أولية. كما أن تعدد القطاعات الممثلة في المعرض، من الصناعات الغذائية إلى الميكانيكية والصلب والخزف، يعكس تنوع الصورة الصناعية للجزائر، ويمنحها قدرة أكبر على التموقع في أكثر من سوق وأكثر من شريحة. هذا التنوع لا يخدم فقط التصدير، بل يُحصّن الاقتصاد من تقلبات الطلب، ويُعزز مرونته أمام الصدمات الخارجية، وهو عنصر أساسي في بناء صورة اقتصادية مستقرة وموثوقة. وفي هذا السياق، يصبح التصدير شكلًا من أشكال الدبلوماسية الاقتصادية، حيث يتحول المنتج الجزائري إلى سفير صامت يفتح الأبواب أمام الشراكات والاستثمارات، ويُعزز الثقة في مناخ الأعمال الوطني. فنجاح مؤسسة جزائرية في سوق خارجية ينعكس إيجابًا على بقية النسيج الصناعي، ويخلق تأثيرًا تراكميًا يُشجّع مؤسسات أخرى على خوض التجربة نفسها. هكذا، يبرز معرض الإنتاج الجزائري كمنصة لا لعرض السلع فقط، بل لعرض صورة جديدة للجزائر، صورة تُبنى على العمل والإنتاج والقدرة على الوفاء بالالتزامات. وهي صورة، وإن كانت لا تزال في طور التشكّل، إلا أنها تشكّل أحد أهم رهانات المرحلة، حيث يصبح الإنتاج الوطني أداة لبناء الثقة، وتعزيز الحضور الاقتصادي، وصناعة موقع للجزائر في خريطة الأسواق الدولية.

 

رسالة الحدث.. الإنتاج طريق النمو وبناء المستقبل

لا يمكن فصل حضور رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لمعرض الإنتاج الجزائري عن الرسالة السياسية-الاقتصادية التي يحملها هذا الحدث، فالإشراف الرئاسي لا يُقرأ هنا كبروتوكول افتتاحي، بل كتثبيت واضح لخيار استراتيجي يجعل من الإنتاج الوطني ركيزة أساسية لمسار النمو. فالدولة، من خلال هذا الحضور، تعلن أن دعم المنتج الجزائري لم يعد شعارًا ظرفيًا، بل توجّهًا ثابتًا تُقاس به السياسات العمومية والخيارات الاقتصادية. ويبرز هذا المعنى أكثر عندما يُنظر إلى تنوّع الأجنحة التي وقف عندها رئيس الجمهورية، والتي تعكس مختلف حلقات الدورة الإنتاجية، من الصناعة الثقيلة والتحويلية، إلى الغذاء، والصيدلة، والتكنولوجيا. هذا التنوع يُظهر أن الرهان لا يقتصر على قطاع واحد، بل يقوم على بناء اقتصاد متكامل، قادر على خلق القيمة في أكثر من مجال، وتوزيع ثمار النمو على نطاق أوسع داخل المجتمع. كما تحمل هذه الزيارة، رسالة موجهة إلى المتعاملين الاقتصاديين، مفادها أن الاستثمار في الإنتاج هو المسار الآمن والمُشجَّع، وأن المؤسسات التي تراهن على التوسعة، الابتكار، والجودة تجد نفسها منسجمة مع رؤية الدولة. فالإنتاج، في هذا السياق، لم يعد مجرّد نشاط اقتصادي، بل التزامًا متبادلًا بين الدولة والفاعلين الاقتصاديين، يقوم على توفير المناخ والدعم من جهة، وتحقيق الأداء والمردودية من جهة أخرى. ومن زاوية أوسع، تعكس هذه الرسالة انتقال الاقتصاد الوطني من منطق التدخل الظرفي إلى منطق التخطيط طويل المدى، حيث يُنظر إلى الإنتاج كأداة لبناء الاستقلال الاقتصادي، وتعزيز القدرة على مواجهة الأزمات الخارجية. فاقتصاد ينتج ويصدّر هو اقتصاد أقل هشاشة، وأكثر قدرة على حماية توازنه المالي والاجتماعي، وهو ما يفسر مركزية هذا الخيار في الخطاب والممارسة الرسمية. بهذا المعنى، لا يختزل معرض الإنتاج الجزائري في كونه موعدًا سنويًا لعرض المنجزات، بل يتحول إلى مؤشر على اتجاه عام تسلكه البلاد، عنوانه أن النمو لا يُستورد، بل يُصنع. رسالة واضحة مفادها، أن مستقبل الجزائر الاقتصادي يُبنى في المصانع، وورشات التحويل، ومخابر الابتكار، حيث يصبح الإنتاج الوطني الطريق الأكثر واقعية واستدامة لصناعة الثروة وبناء الغد.