أجواء رمضانية مميزة يصنعها المزابيون

غرداية… موطن الواحات الخصبة والقصور القديمة

غرداية… موطن الواحات الخصبة والقصور القديمة

بني مزاب أو سكان غرداية… امتزاج بين خصوصيات المنطقة الطبيعية وطباع وسلوكيات أهلها، ليشكلوا مجتمعا خاصا بهم، يتميز عن غيره بصفات لا يمكن أن تجدها إلا عند “المزابي”.

كما يتميز شهر رمضان المعظم بمنطقة غرداية بإحياء مشاهد من عادات وتقاليد عريقة، التي ما زالت وعلى مر الأزمان تساهم في تعزيز أسس التماسك الإجتماعي وتكريس قيم التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع.

ويحيي سكان غرداية بجميع مكوناتهم ومشاربهم شهر الصيام بإحياء تلك العادات التي يتقاسمونها فيما بينهم، وفي أجواء من الروحانية والافتخار سيما ما تعلق منها بتحضير بعض أطباق الإفطار، في أجواء من الطقوس القديمة المتوارثة عبر العصور.

 

غرداية.. الجوهر الذي لا يزول

وتعد مدينة غرداية السياحية من أحسن النماذج التي تترجم جمال بلد الجزائر وبالتحديد صحرائها، ففيها يجد السائح ما يجعله ينبهر بجمالها لما يميزها من ثروات تقليدية وتراث جميل يستحق التأمل، وتقع ولاية غرداية شمال صحراء الجزائر، ويبعد مقر الولاية أي مدينة غرداية بـ 600 كلم عن العاصمة الجزائر.
تحد ولاية غرداية كل من: ولاية الجلفة وولاية الأغواط شمالا، ولاية البيض وولاية أدرار غربا ولاية ورقلة شرقا، وولاية تمنراست جنوبا.

ويعبرها الطريق الوطني رقم 1 الرابط العاصمة الجزائرية بالجنوب الكبير الساحر.

 

بني مزاب… مدينة الأصالة الاجتماعية وعاصمة الثقافة الدينية

تعتبر وادي مزاب واحدة من أغنى المناطق الثقافية في الجزائر، وهي من أجمل المناطق في الصحراء الجزائرية، حيث كانت هذه المنطقة لأكثر من عشرة قرون مأوى السكان المزابيين، هؤلاء البربر الذين بنوا سلسلة من المدن المحصنة حيث أنها وضعت ثقافة غنية، وحافظت على نمط الحياة والحرف التقليدية، فهي من أروع وأكثر المدن الأصيلة في الجزائر، يواصل سكانها التعايش بأسلوب الحياة التقليدي في المنطقة وهذا ما سمح لهم بالاحتفاظ بجزء كبير من حرفتهم ومن المعروف عن منطقة بني مزاب المنسوجات بشكل خاص ذات جمال خلاب، حيث الصوف مادتها الأولية، وهي واحدة من أكثر المواد المستخدمة في الحرف اليدوية والمنسوجات عند بني مزاب والمعروفة بتنوع ألوانها، إضافة إلى ثراء زخرفي ممتاز لما تنتجه بهذه المادة.

 

ثروات سياحية ضخمة لا مثيل لها في العالم

توجد بغرداية عدة قصور بنيت في الفترة ما بين القرنين الخامس والثامن الهجري من بينها قصر العطف ”تجنينيت” بني في 402 هجري، وقصر بنورة ”آت بنور” بني في 456 هجري، وقصر غرداية ”تغردايت”476 هجري، وقصر بني يزقن ”آت يسجن” 720 هجري، وقصر مليكة ”آيت مليشت “756 هجري، وقصر القرارة في القرن الـ 16 ميلادي وقصر متليلي في القرن السادس هجري.

كما تتميز الولاية بالعديد من المعالم الدينية من مساجد، ومصليات جنائزية تقام فيها شعائر دينية موسمية، زيادة على تفرد المساكن التقليدية بهذه الولاية، كما يتفرد القصر المزابي بتوفره على فضاءات واسعة للمبادلات التجارية والتي تعتبر مركزا للحياة الحضارية، كما تعرف قصور ولاية غرداية بنظام خاص لتوزيع المياه على الواحات الغناء، التي يستفاد منها للاستجمام صيفا، زيادة على التمتع بثمارها.
كما تعرف ولاية غرداية خاصة في القصور بتلك المنازل المبنية من الطين والمصممة تصميما أبهر الزائرين لها، حيث تبدو موحدة في شكلها و متجانسة في ألوانها وتلك الغرف الصغيرة ذات الحجم المتواضع حتى أنها لا تملك مساحة كافية لزربية كبيرة، لذلك فإن زربية بني مزاب متواضعة في حجمها تستخدم للفراش أو لسجادة الصلاة على وجه الخصوص والمخدات ذات الرموز والأشكال البربرية المستوحاة من البيئة المحلية والألبسة العائلية التقليدية.

وبخصوص الصناعة التقليدية بالإضافة إلى الزربية، فإن المنطقة تشتهر بالألبسة الصوفية كالقندورة والفيلة والخمري، كما تشتهر كذلك الولاية بالنقش على النحاس والخشب وصناعة الجلود والفخار والتحف الفنية.

 

زربية غرداية… نسيج يعكس جمال المنطقة ومهارة أنامل الحرفيات

تعتبر زربية غرداية من أهم الصناعات التقليدية التي تلقى رواجا كبيرا، حيث تختص الولاية بعيد الزربية الذي يعد أهم وأقدم مهرجان سياحي في الجنوب الجزائري ينظم في ربيع كل سنة، ويشمل معرضا للمنتجات والسلع التقليدية، وعربات تجوب شوارع المدينة مزينة بالزرابي والخيم التقليدية مع فرق فولكلورية من أغلب ولايات الوطن، هذا العيد السنوي للزربية التقليدية الغرداوية الذي يهدف إلى بعث النشاطات السياحية والخاصة بالصناعة التقليدية لمختلف الولايات، ويشكل عيد الزربية فرصة لتثمين ما تزخر به ولاية غرداية من ثروات تقليدية والترويج لها، حيث يعد حدثا يستقطب العديد من السواح الوطنيين والأجانب والمهتمين بالزربية التقليدية التي تشكل أحد الدعائم الأساسية للاقتصاد المحلي، تعرض فيه وتباع منتوجات الصناعة التقليدية التي أبدعت فيها وبمهارة فائقة أنامل الحرفيات الناشطات.

عيد الزربية حدث يحاول فيه استخدام ثروات الوطن للفنون التقليدية التي تنتمي إلى مجتمعات مختلفة في ولاية غرداية، لجعل هذا الحدث نقطة جذب سياحية وتعود بالنفع على اقتصاد المنطقة “واد مزاب”، كما يعتبر هذا الحدث فرصة لتطوير مهارات الحرفيين والنسيج من ولايات مختلفة من البلد، كما يعتبر أيضا حافزا للأنشطة السياحية والثقافية والتجارية في المنطقة.

بهذه المناسبة يتم استدامة الفن التقليدي عن طريق الزربية التي تنسجها الأنامل الذهبية لربة المنزل في زخارف مختلفة وألوان بديعة.

ويعرف عيد الزربية في غرداية إقبالا يفوق 100 ألف زائر سنويا، ويعرف مبيعات كبيرة يستفيد منها الناشطون في قطاع الصناعات التقليدية والسكان المحليين الذين يجدون في المعرض فرصة لتسويق أكبر قدر من المنتجات.
وينعكس نشاط المعرض على الوضع الاقتصادي بصفة عامة، حيث يمكّن القطاعات الأخرى على غرار النقل والفنادق والمطاعم من مضاعفة عملها.

 

واحات غرداية تجذب السواح وتزرع فيهم الطمأنينة والهدوء

يعود الإقبال الكبير للسواح الذي تشهده بني مزاب إلى أجواء الطمأنينة والهدوء الذي يسود هذه المنطقة المعروفة بتراثها الطبيعي والمعماري والثقافي المصنف من طرف المنظمة الأممية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) كتراث عالمي محمي.
كما تشكل واحات النخيل التي تحتضن منازل تقليدية بداخلها مواقع للإقامة، واحدة من بين المواقع الطبيعية التي يحبذها السواح الذين يفضلون قضاء عطلتهم بالمساكن التقليدية الواقعة بواحات “بني يزقن” خلافا للسواح المحليين الذين يقصدون الحمامات المعدنية بمنطقة زلفانة التي تبعد 70 كلم عن عاصمة الولاية، هذا ما يوضح أن هذا الإقبال على السكنات التقليدية بواحات النخيل يعكس عودة الاهتمام بالسياحة الإيكولوجية النظيفة. إن هذا الإهتمام بالمنازل التقليدية وبغابات سهل ميزاب يمثل ثمرة مقاربة المتعاملين السياحيين بغرداية الهادفة إلى المحافظة على الطابع الفريد المتمثل في السهل والغابة والرامي إلى إعطاء نموذج يحتذى به في مجال حماية البيئة.
ولقد تبلورت هذه الرؤية من خلال تهيئة العديد من واحات النخيل العائلية بمواقع للاستقبال والإيواء أو البيوت التقليدية التي تراعي الهندسة المعمارية لغرداية وراحة السواح، إذ توفر المنطقة ما يقارب عشرة مواقع للإيواء تقع بغابات النخيل وغابات سهل ميزاب تصل طاقة استقبالها إلى 500 شخص.

الأجانب ينعشون غرداية والمحليون يفضلون تركيا وتونس

والمعروف في غرداية انتعاش الحركة السياحية بها خاصة في فترة ما بين ديسمبر وأفريل، حيث يبلغ فيها النشاط السياحي ذروته، فالمدينة يزورها العديد من السواح الجزائريين من مختلف المناطق وهو أمر إيجابي جدا، ففي السنوات الأخيرة أقبل المئات على الولاية لزيارة المعالم التاريخية و المدينة القديمة ”بني يزقن” وسوق المدينة ”لالا عشو” للبيع بالمزاد العلني، بالإضافة إلى المواقع الأخرى، وهو ما جعل المسؤولين يفكرون في تطوير نشاطهم من خلال دراسة ووضع برامج سياحية تتماشى ومتطلبات السائح الجزائري وكذا قدرته الشرائية. ولهذا الغرض سطر الديوان السياحي الجزائري رحلات منتظمة تدوم أربعة أيام و3 ليال بالصحراء، حيث يستفيد السائح من إقامة تقليدية في الخيم مع مأكولات تقليدية مع زيارات لمختلف المواقع الأثرية مقابل مبالغ لا تتعدى 15000 دينار.

إلا أن المنافسة السياحية قد انتقلت الى قلب غرداية، حيث أصبحت تركيا وتونس وجهات سياحية تعمل مع مختلف الوكالات السياحية على إقناع المواطن الغرداوي للسياحة في الخارج، حيث بدأ الإقبال على الوجهات السياحية في الخارج يرتفع، وهو ما يشكل منافسة في عقر دار ديوان السياحة، لهذا لابد وبل من الضروري تنويع النشاطات مستقبلا للحفاظ على السوق السياحية المحلية وكسب سواح جدد.

 

رمضان… قداسة وأصالة عند المزابين

يختص الشعب الجزائري خلال شهر رمضان المعظم بعادات نابعة من تعدد وتنوع المناطق التي تشكله، كما يشترك في كثير من التقاليد مع الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، ومن المناطق التي صنعت أجواء رمضانية مميزة وجعلت للشهر الكريم طعما خاصا، منطقة بني زاب التي تجمع بين العبادة، الأصالة، المتعة والترفيه، ويحظى شهر الصيام لدى جميع المزابيين بقداسة خاصة، إذ يتم الاستعداد لاستقباله بشكل احتفالي، بتحضير المساجد وتجديد مستلزمات المطبخ، وشراء التوابل وتهيئة المنازل للسهرات النسوية اللاتي يقمن بتكوين حلقات للحديث عن أمور الدين والدنيا.

مساجد عامرة وحرص على ارتداء اللباس التقليدي طيلة الشهر الفضيل

وعلى غرار مختلف مناطق الوطن، تستقطب المساجد بغرداية أعدادا قياسية للمصلين طيلة شهر رمضان المبارك بملابس نظيفة ومعطرة، حيث يملأ المصلون هذه الفضاءات المقدسة، فيصلون و يتابعون الخطب الدينية والصحية المنظمة من طرف المختصين لاسيما في أمراض السكري وخبراء التغذية من أجل توعية السكان حول الطرق الوقائية والعادات الجيدة الواجب إتباعها خلال شهر الصيام .

فالصائمون بغرداية يعيشون شهر رمضان المعظم في أجواء تميزها العادات والتقاليد الأصيلة والبساطة، وذلك بالرغم من قساوة الظروف المناخية.

كما يتميز الشهر الفضيل أيضا بتصالح الغرداويين مع اللباس التقليدي، بجميع أعمارهم، من خلال ارتداء جلابيبهم التي تبرز مهارة وموهبة الحرفيين وخياطي المنطقة، وذلك بغرض الحفاظ على الجانب التقليدي المميز للباس المنطقة.

ومن بين العادات الدينية الأخرى الممارسة خلال هذا الشهر الفضيل، قراءة وتلاوة القرآن الكريم جماعيا بالمساجد ضمن حلقات طوال أيام شهر رمضان المعظم دون انقطاع باستثناء أوقات الصلوات الخمس اليومية .

“وعادة ما تنطلق حلقات قراءة الكتاب المبين عشية حلول رمضان المبارك في جماعات صغيرة”، كما أفاد عمي بكير، مبرزا بأن “كل مجموعة يتم تعويضها بمجموعة أخرى دون انقطاع ليلا ونهارا وفي كل مرة يتم ختم كتاب الله العزيز الحكيم”.

وتأتي قراءة القرآن الكريم دون انقطاع بمساجد غرداية إحياء لنزول القرآن العظيم خلال شهر رمضان المبارك، وهو شهر القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حسب ما ذكره عمي محمد أحد أعيان غرداية.

 

الأطفال يبتهجون برؤية الهلال
ومع اقتراب شهر الصيام في ليلة الشك تحديدا، يصعد الأطفال مع حلول المغرب إلى سطوح المنازل يترقبون الهلال. وقد جرت العادة عند سكان ميزاب الإعلان عن بداية رمضان باعتماد الرؤية البصرية، ويتم لذلك تشكيل مجموعات من الأعيان ذوي الخبرة إلى جانب المواطنين الذين يبلغون بمعلومات عن ظهور الهلال.

وكان الناس يتجمعون في قمم جبال غرداية مع كبار القوم لمراقبة هلال رمضان، فإذا تمت الرؤية أشاعها أعيان القرى وشيوخ العلم في باقي المدن، فتطلق في تلك الأثناء مدفعية رمضان عددا من الطلقات من المسجد العتيق الذي يعلو مدينة غرداية إعلانا بظهور هلال رمضان وابتهاجا به. ويردد الأطفال في منازلهم وعبر الشوارع أهازيج محلية “ظهر الهلال، غدا رمضان”. ولكن مع دخول التلفزيون في كل بيت وغزو مظاهر العولمة لكل تفاصيل حياة المجتمع المحلي، اضمحلت هذه التقاليد أو تكاد تزول تماما، حيث أصبح الناس بغرداية يعتمدون على ما تعلن عنه لجنة الأهلة لوزارة الشؤون الدينية سواء شاهدوا الهلال أو لم يشاهدوه، فزالت بذلك مظاهر البهجة والفرحة لدى الأطفال في استقبال الشهر المبارك.

مائدة الإفطار بالتمر وطبق الكسكسي المعد بالقديد وخبز الدار
مائدة الإفطار الرمضانية عند أهالي ميزاب لا تختلف كثيرا عن باقي الموائد الجزائرية التي تزخر بشتى الأطياف التي تحضر في هذا الشهر الكريم دون غيره من شهور السنة، ففيه تشتهي النفوس ما لا تشتهيه خارج أيامه، وتتميز المائدة المحلية بحضور التمور بشتى أنواعها، والتي يبدأ بها الصائمون إفطارهم مع أكواب من الحليب أو الماء البارد لإزالة آثار العطش طيلة يوم كامل من الصوم. وتكون الوجبة بعد أداء صلاة المغرب شوربة الفريك، وتليها وجبة حلوة في اليوم الأول من رمضان مثل طاجين البرقوق، ويتخذ السكان حلاوته فأل خير ليكون شهر رمضان كله حلوا مليئا بالخيرات والبركات. فبعد إعداد مائدة الإفطار التي يزينها طبق الكسكسي المعد بالقديد

وتحضير حساء الشوربة على كيفيتهم الخاصة، ويكون خبز الدار كما يسمى هنا، العنصر الأساسي في المائدة مع كل الوجبات طيلة شهر كامل. وبعد عودة الرجال من المساجد بعد أداء صلاة التراويح، يجتمع الأهل حول الشاي الذي يتم تحضيره بطرق تقليدية وفق مهارات لا يتقنها إلا من اكتسب الخبرة في إعداد هذا المشروب الذي لا يستغني عنه الصائمون في مناطق الصحراء عموما، مع تناول بعض الحلويات والفول السوداني “الكاوكاو” وبعض المكسرات الأخرى.

 

المزابيات يحافظن على العادات ولا يفرطن في العبادات

تستعد نساء وادي “مزاب” بعد الإفطار لإقامة صلاة التراويح في بيوتهن، ليقمن بعد ذلك بتنظيم حلقات نسوية تجمع بين تلاوة القرآن وتعليم الفتيات أحكام تجويده وبين اعطاء دروس فقهية والتي تستمر في الكثير من الأحيان إلى موعد السحور. أما وجبة السحور، فلا زال الكثير من العائلات مرتبطا بتقاليد الأجداد بتناول الكسكسي المسفوف، فيما يفضل البعض الآخر قهوة وحليبا مثل فطور الصباح في سائر الأيام لخفتها على الجهاز الهضمي، فليس فقط الرجال من يقدسون الشهر الكريم بل المزابيات أيضا، فهن الأخريات لديهن حظ وفير في صنع النكهة الخاصة والمميزة لمدينة وادي مزاب بغرداية.

ل. ب