أيها المؤمنون أيتها المؤمنات، إن من أعظم أعمال البر التي غفل عنها كثير من الناس غرس الشجر وبذر الزرع، وهو عمل جليل حث عليه الإسلام ورغّب فيه أعظم ترغيب، وجعل ثوابه متصلاً لا ينقطع. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : “ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”، رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي رحمه الله: “في هذه الأحاديث فضيلة الغرس وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمر مادام الغراس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة. قال ﷺ في الحديث الذي رواه البيهقي عن أنس بن مالك: «سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علّم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته”. فالغرس صدقة جارية، وثمرة باقية، وأثر جميل في الدنيا والآخرة. ورُوي أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله خرج يومًا إلى بستان له، فرأى شيخًا كبيرًا يغرس شجرة زيتون، فقال له عمر: “يا شيخ، أنت كبير، والزيتون لا يثمر إلا بعد سنين طويلة!” فقال الشيخ: “غَرَسُوا فَأَكَلْنَا، فَنَغْرِسُ لِيَأْكُلُوا”. أيها الأفاضل: تأملوا هذا الفضل العظيم، عمل يسير وأجره لا ينفد، فكم من غرس أنبته أخي المؤمن، وكم من شجرة تركت بعدك تُظلّ العابرين، وتُطعم الجائعين، وتُسبّح بحمد ربها؟ فاسأل نفسك: متى كانت آخر مرة غرست فيها شجرة تُنتج خيرًا للناس والدواب، وتُسجل لك صدقة جارية؟. وها نحن اليوم بفضل الله على موعد مع حملة مباركة تمتد عبر أرجاء الوطن، هي مشروع “المليون شجرة” الذي سيكون غدا الخامس والعشرين من شهر أكتوبر، ليكون شاهدًا على وعي الأمة وحرصها على عمارة الأرض التي استخلفها الله فيها. إنها ليست حملة غرس فحسب، بل رسالة إيمان وحضارة، نغرس فيها الأمل كما نغرس الشجر، ونجدد بها عهدنا مع الله على الإصلاح والبناء، لا على الإفساد والفناء. فيا أحباب رسول الله، شاركوا في هذه الحملة مشاركة صادقة فاعلة، ازرعوا شجرا يسبح في الدنيا ويشهد لكم في الآخرة، وكونوا من الذين يتركون وراءهم أثرًا طيبًا وعملًا باقياً. فاللهم اجعل غرسنا صدقة جارية لنا ولأوطاننا، وبارك في أيد غرست، وقلوب أحيت، وأمم أخلصت. إن الغرس الذي أرشدنا إليه سيدنا محمد ﷺ ليس في الأرض وحدها، بل في القلوب والعقول والضمائر. فكل غرس صالح هو “فسيلة” تبقى بعد صاحبها، تُثمر خيرًا وتورث بركة. فاغرسوا الخير أيها الأحبة حيث كنتم، فإن الله لا يضيع غرسًا كان لوجهه، ولا عملاً أُريد به وجهه الكريم، ولو كان قبيل قيام الساعة. اللهم اجعلنا من الزارعين للخير، العاملين بالبر، الساعين إلى عمارة الأرض بما يرضيك. اللهم اجعلنا من الذين يغرسون في الأرض خيرًا، وفي القلوب إيمانًا، وفي الأمة صلاحًا.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر