أنوار من جامع الجزائر

غرس فسيلة.. عمل باق وأجر جار – الجزء الأول –

غرس فسيلة.. عمل باق وأجر جار – الجزء الأول –

معاشر المؤمنين، لحظة قيام الساعة هي آخر فصول الدنيا، ومشهدها الختامي الذي تنطوي به صفحات الحياة، حيث لا بناء يُشاد ولا غرس يُنبت، ومع ذلك يوصي النبي ﷺ بالزرع! وكأن صوته الشريف يهمس في آذان المؤمنين: اعملوا، فليست قيمة العمل في نتيجته، بل في صفاء نيتكم وإخلاص مقصدكم. إنها أعظم تربية على أن العمل في الإسلام عبادة تُقاس بالنية لا بالحصاد، وبالصدق لا بالثمرة. فالمؤمن يزرع لأن الله أمره، لا لأن الدنيا تُثمر له، ويغرس لأن قلبه عامر بالأمل، لا لأن الأرض ستُنبت غدًا. تلك هي مدرسة الإخلاص التي تنتصر على اليأس، وتغرس الرجاء في وجه الفناء. ولقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بأن سخَّر لهم هذا الغرس، فجعل منه رزقًا ومتاعًا، ينتفعون بثمره غذاءً، وبجذوعه بناءً، وبأغصانه وقودًا، وبأوراقه وعرُوشه دواءً وزينةً، فهو نعمة عظيمة تتنوع خيراتها وتتعدد منافعها. ومع هذا التسخير البديع، فلهذا الغرس عبودية خاصة يعرفها خالقه وحده، إذ هو من جملة المخلوقات التي تسبح بحمد ربها وتسجد لجلاله، كما قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ” الحج: 18. وقال سبحانه: “وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ” الرحمن: 6. فالشجر إذن ليس جمادًا صامتًا، بل كائن حي يسبّح ويخشع، ويسجد لخالقه طوعًا، ويشارك الكون كله في مظاهر العبودية والخضوع لله رب العالمين. روى ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني رأيت في المنام كأني أصلي عند أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم احطط عني بها وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا. قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة”. فانظروا رحمكم الله، كيف سجدت الشجرة لربها خضوعًا وعبوديةً، وعرفت لخالقها قدره، فسبّحت بحمده وسجدت له طوعًا ورضا. والشجر يسمع الأذان ويشهد للمؤذن يوم القيامة، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان، فإنه لا يسمعه إنسٌ ولا جنٌّ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا شهد له” رواه ابن ماجه وصححه. فسبحان من أنطق الجمادات وجعلها شاهدة للمؤمنين الموحّدين.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر