حينما تهاوت القيم واللوائح الأممية

غزة.. المدينة التي سقطت فيها كل شعارات حقوق الإنسان

غزة.. المدينة التي سقطت فيها كل شعارات حقوق الإنسان

بينما يحيي العالم، اليوم، اليوم العالمي لحقوق الإنسان بشعارات براقة وندوات رسمية، تتكشف في غزة مأساة إنسانية تعري جوهر التزام المجتمع الدولي بهذه القيم، فهناك على مرأى العالم كله تُنتهك أبسط الحقوق التي وجدت المواثيق الدولية لحمايتها كالحق في الحياة، الصحة، الأمن والسكن.

وفي الوقت الذي ترفع فيه الخطابات حول “كرامة الإنسان”، يتكدس تحت الركام آلاف الضحايا، وتصارع ملايين الأسر من أجل البقاء، فغزة ليست مجرد حدث عابر في سجل النزاعات، فكانت بحق اختبار مباشر لمصداقية منظومة حقوق الإنسان ومرآة تعكس حجم الفجوة بين الكلام والواقع.

 

حقوق الإنسان.. مبادئ عالمية تتصدع أمام الحروب

تهدف الشرعية الدولية لحقوق الإنسان إلى ضمان أساسيات الحياة لكل فرد كالتعليم، الرعاية الصحية، حرية التعبير والعيش الآمن في دول مستقرة، تبدو هذه الحقوق بديهية، لكن ما إن تندلع النزاعات حتى يتبين مدى هشاشة هذه القيم حين لا تكون هناك قوة تحميها.

 

غزة.. مأساة تتجاوز حدود الإحصاء

رغم اختلاف المصادر، إلا أن جميعها تجمع على أن حجم المأساة في غزة غير مسبوق في تاريخ الصراع. وبلغة الأرقام، وحسب بيانات وزارة الصحة في غزة، فقد تم تسجيل أكثر من 58 ألف شهيد منذ أكتوبر 2023، وحوالي 17900 طفل قتلوا خلال الهجمات الإسرائيلية، وهو رقم صادم يضع غزة في صدارة مناطق النزيف الإنساني.

وحسب تقديرات مستقلة ترفع الرقم الإجمالي للضحايا إلى 64 ألف شهيد نتيجة القصف المباشر وحده، فيما تراجع عدد سكان قطاع غزة بنحو 6 بالمئة بسبب القتل، النزوح وفقدان الآلاف.

كل هذه الأرقام لا تصف وضعا عابرا بل تعكس تدهورا بنيويا مس كل جوانب الحياة، كالغذاء، الصحة، التعليم، السكن ونسيج اجتماعي مهدد بالتفكك لسنوات قادمة.

 

الحقوق الأساسية.. بين التدوين والنسيان

لا يحتاج السكان في غزة لحقوق الرفاهية أو لتحسين جودة الحياة، بل هم يحتاجون للحد الأدنى من شروط البقاء على قيد الحياة، فالغزيون يحتاجون للحق في العلاج لأن المستشفيات مدمرة والأجزاء الباقية منها تعاني من نقص كبير وحاد في الأدوية.

كما يحتاجون إلى الحق في السكن، حيث أن عشرات الآلاف من المساكن سويت بالأرض، كما يُحرم سكان غزة من حقهم في التعليم، حيث تحولت المدارس إلى ملاجئ أو ركام، إضافة إلى حرمانهم من الحق في الماء والغذاء، حيث يعرض الحصار المضروب على غزة المدنيين لخطر المجاعة، والأهم من هذا أن سكان غزة مهددون بشكل يومي بالقتل، وبالتالي الحرمان من الحق في الحياة.

وبهذا الواقع، أصبحت المواثيق الدولية مجرد نصوص جميلة لا تُطبق حين يحتاجها الأكثر ضعفا.

 

المجتمع الدولي.. بيانات لا توقف النزيف

رغم تقارير المنظمات الدولية والنداءات المتكررة، يبقى التحرك الفعلي محدودا، فتتحول بيانات الإدانة إلى طقوس دبلوماسية لا تأثير لها، بينما يستمر الوضع الإنساني لسكان غزة في الانهيار، ما يجعل التساؤل مشروعا عن جدوى الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان إذا عجز المجتمع الدولي برمته عن حماية الإنسان حين يكون في أمس الحاجة لحمايته؟

 

المشهد الإنساني.. حياة تتكئ على الأمل

في شوارع غزة لا شيء يشبه الأمس، فالأبنية التي كانت تحتضن العائلات، أصبحت هياكل صامتة والمدارس التي ضجت بأصوات التلاميذ تحولت إلى مخيمات تأوي النازحين، والمشهد هناك ليس مجرد خبر أو صور تبثها نشرات الأخبار، بل هو تفاصيل يومية يكتبها الغزيون بدمائهم وصبرهم، ورغم الأمل يصر سكان غزة على ممارسة حياة طبيعية قدر المستطاع، فترى الأطفال يلعبون بقطع الركام، ونساء يعددن الخبز في أفران بدائية، ورجال يبحثون عن رزق يسد رمق أسرهم، في تجسيد حقيقي لمعنى الحياة المعلقة بين الخوف والأمل، ومع ذلك تمضي لأن التوقف يعني الاستسلام، وهو ما لا يعرفه سكان غزة.

 

النسيج الاجتماعي.. قوة صامدة رغم الانكسار

على الرغم من اتساع رقعة الدمار، لا يزال المجتمع الغزي متماسكا بصورة تثير التقدير، فالأسر هناك تستضيف من فقدوا منازلهم والجيران يتقاسمون الطعام الشحيح فيما بينهم،

والمتطوعون يعملون دون توقف في مراكز الإيواء، ما جعل هذا يعكس إحدى أهم الحقائق القائلة بأن المجتمع لا ينهار حتى لو انهارت الأبنية وأن الروابط الإنسانية أقوى من الحرب في حد ذاتها.

 

المساعدات الإنسانية.. قطرة في محيط الحاجة

رغم الجهود الدولية لإرسال المساعدات، تبقى الحاجة أكبر بكثير، فالطوابير الطويلة أمام نقاط توزيع الغذاء والمياه تختزل حجم الأزمة هناك، ففي ظل الحصار والدمار لا يشكل وصول قافلة أو اثنتين تغييرا جوهريا في حياة مئات الآلاف من النازحين، بل يشعر السكان أن المساعدات تحولت إلى “مُسكّن مؤقت” أكثر من كونها حلا جذريا للأزمة.

 

صوت غزة.. حين يتحدث الإنسان قبل السياسة

في خضم الأحداث، تغيب عن العالم قصص الناس البسطاء، قصص من فقدوا أبناءهم، من دُمرت منازلهم، ومن يبحثون عن جثث أحبّتهم تحت الأنقاض.

هذه الأصوات ليست أرقاما ولا عناوين، بل هي روايات غير مكتملة تفضح عجز العالم عن حماية أبسط الحقوق الإنسانية.

 

دعوة لإعادة النظر في الواجب الإنساني

ما يحدث اليوم في قطاع غزة ليس شأنا سياسيا فحسب، بل هو قضية إنسانية تُحتم على العالم إعادة النظر في معنى “الواجب الأخلاقي”، فالحقوق الإنسانية لا تقاس بعدد البيانات بل بقدرة العالم على حماية الأبرياء ومنع تكرر المأساة، وما لم تتحول الشعارات إلى آليات فعلية للحماية، تبقى حقوق الإنسان فكرة جميلة تُكرر في المناسبات لا أكثر.

فغزة اليوم تختبر ضمير العالم وتختبر مصداقية الاتفاقات الدولية وقدرة المؤسسات الحقوقية على الدفاع عن الإنسان دون حسابات سياسية وخلفية إيديولوجية.

هذا، ويُذكر أنه تم اختيار هذا اليوم من أجل تكريم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر يوم 10 ديسمبر 1948 حول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان بوثيقة مكونة من 30 مادة اعتمدتها وتم قبول واعتماد الوثيقة من قبل 48 دولة، بينما رفض التوقيع عليها آنذاك كل من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وأوكرانيا وبيلاروسيا ويوغوسلافيا وبولندا وجنوب إفريقيا وجمهورية التشيك والمملكة العربية السعودية. ويمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم التوقيع عليه في العاشر من ديسمبر دستور الوثائق التي يتم إصدارها في مجال حقوق الإنسان والحريات، ويحتفل في ذلك اليوم من كل عام باليوم العالمي لحقوق الإنسان.

لمياء. ب