يعتبر التغير الاجتماعي الناتج عن التحضر والتصنيع وظهور نمط المسكن الحديث، من العوامل الفعلية في تغير الأسرة الجزائرية تدريجيا من عائلة كبيرة ممتدة إلى أسرة نووية صغيرة. وكقاعدة يتداولها علماء الاجتماع والنفس والتي تقول بأن نظام الأسرة الزواجية يقوم في أغلبه على وجود جيلين لا أكثر، أي جيل الأبناء وجيل الآباء، وهذا ما يجعل فرصة استمرارية هذه الأسرة قليلة، فبمجرد زواج الأبناء تنتهي الأسرة النواة خاصة بوفاة أحد الوالدين.
لم تعد المشكلة الإسكانية مجرد مشكلة اقتصادية فحسب، بل باتت لها انعكاسات اجتماعية لا يمكن إغفالها، خصوصا عندما نرى الانكماش التدريجي الذي يحدث في مجتمعنا، فيما يطلق عليه ‘’ الأسرة النووية’’، فقد أشارت عدة دراسات إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لانهيار بنية وكيان المجتمع الجزائري هو تحول هذا المجتمع من نمط الأسرة الممتدة إلى نمط الأسرة المحدودة أو النووية، ففي عهد تلك الأسر الممتدة كان الجد أو العم يحلان مكان الأب حال غيابه في رعاية الطفل، كذلك كانت تفعل الجدة
والخالة، إذ أنهم كانوا يحافظون على النمو النفسي والجسدي للطفل ورعايته في مختلف مراحل نموه، وتوجيهه اجتماعيا بما يحقق تكيفه السليم مع المجتمع المحيط، والعمل على وقايته طفلا ثم مراهقا من الانحراف وسلوك الطريق الشاذ، وإرشاده لسلوك طريق النجاح والمستقبل الواعد، في حين انقلبت الأوضاع في ظل التطورات في العقود الأخيرة من العصر الحالي مع ظهور الأسر الصغيرة، فيرى البعض من علماء الاجتماع أن الأسرة تضاءل دورها المستمر في تربية الطفل لصالح المؤسسات الاجتماعية الحديثة.
وفي هذا الصدد، يقول الهادي سعدي المختص في علم الاجتماع لـ “الموعد اليومي”، “إن واقع الأسرة الجزائرية ناتج عن الأحداث التي تعاقبت بعد الاستقلال خاصة مع النزوح الريفي الذي أحدث استقلالا عن الجد والجدة بل عن الأب والأم، فلم يعد هناك تربية مرتبطة بين الجد والجدة وحتى الوالدين، فقد كان للأبناء وسط الأسر الكبيرة، متاحاً في إتقانهم لفن التواصل الاجتماعي، وتعلمهم من تجارب الآخرين الكثير، فيجمع علماء المجتمع على أن الأبناء الذين يتربون وسط عائلة كبيرة وتسمى في علم المجتمع وعلم النفس “الأسرة الممتدة” يحتكون من خلالها مع أبناء عمومتهم وأبناء أخوالهم، يختبرون تجارب أكثر، ومن ثم يكونون اجتماعيين وغير خائفين ممن حولهم، فتجدهم غير مترددين في المواقف الصعبة، كما أن وجود الجد والجدة، وهما مصدر للحكمة والأمان للأطفال، يمنح الطفل ملجأ للهرب إليه من ضغوط والديه، فيجد التوعية والتعليمات السليمة التي من شأنها بناء الأطفال على تربية سليمة تجعلهم يتخذونها منهجا لهم في حياتهم”.
زيادة على ذلك، فإن مختصين في علم الاجتماع يؤكدون على أن الطفل الذي ينشأ في أسرة كبيرة يتعلم من أخطاء أقرانه، ويتعلم أيضا الأنشطة المختلفة منهم، بما ينمي قدراته، وأن تربية الأبناء تعتمد على الوالدين أينما وجدوا، سواء في أسرة كبيرة أم صغيرة، «فمن يريد الحرص على أن يكون ابنه مبدعا واجتماعيا وإيجابيا ويتعامل مع الآخرين بكل تقدير، فإن ذلك يأتي من خلال إشراكه في النوادي وحضور المناسبات الاجتماعية، وأيضا الخيرية التي تحث على التواصل الاجتماعي والعائلي”.
في هذا الصدد، تحكي السيدة عائشة التي تسكن مع أهل زوجها، وتؤكد إيجابية احتكاك ابنها مع أبناء عمومته، وجدته وجده وأعمامه ويظل طوال الوقت تحت رقابتهم وفي رعايتهم وسط ضحكهم وتجمعهم وحكاياتهم، وتقول إنه يجيد التصرف مع أصدقائه، فلا يشتكي من مشاكل في المدرسة، ويعتمد على نفسه في أمور حياته.
فترى عائشة أم لأربعة أولاد أن عيش الأبناء وسط العائلة الكبيرة شيء إيجابي، فالأولاد يتعلمون من جلوسهم مع الجد والأعمام الشهامة والرجولة والكرم وحسن الأخلاق.
نفسها السيدة كلثومة تروي تجربتها الشخصية في هذا المجال فتقول: «عندما كنت في بيت عائلة زوجي، تربى أبنائي الكبار وسط أبناء أعمامهم، وبصحبة جدهم وجدتهم، كنت حريصة على اللقاءات العائلية، إضافة إلى وجود أبنائي في الأندية المسائية، وصحبة أبيهم إلى المسجد، الأمر الذي جعلهم يتربون تربية صحيحة ونموذجية”.
الأسر الصغيرة…. تراجع سلطة الآباء وغياب المثل الأعلى
وفي المقابل، يرى علماء الاجتماع أن في الأسرة الصغيرة والتي تسمى «الأسرة النووية» يضع الأبوان ابنهما تحت المراقبة المستمرة والعقاب الفوري على كل التصرفات، إضافة إلى عزله عن المجتمع، فهو ممنوع من الذهاب إلى بيت عمه أو خاله، حتى لا يختلط مع أبنائهم، بذريعة حمايته من العادات السيئة، كما يظنون، وهنا لا يجد الابن أحدا يتحدث معه عندما يغضب منه أبواه أو يعاقبانه إلا الخادمة، وهذا بالطبع أمر خطير جدا، -حسب علماء النفس- ومن شأنه أن يحدث مشكلة كبرى قد لا يجد الأبوان لها حلاً، ومن شأنه أيضا أن ينمي العلاقة العاطفية بين الابن والخادمة على حساب علاقته بأبويه، وهو أمر خطير له عواقب وخيمة. وزيادة على ذلك، فإن علماء الاجتماع يجمعون على أن الأسرة الصغيرة تحدث عزل الابن عن المجتمع، ويجعل غياب الأم والأب الطفل وحيدا، ليس لديه من يوجهه، ولا يجد حضنا دافئا إلا الخادمة، بما ينجم عن ذلك من عواقب وخيمة.
وأضاف الأستاذ الهادي أن “التحول الحالي للمجتمعات من الأسر الصغيرة إلى الكبيرة والجري وراء تحقيق الربح المادي غيّر الأدوار الاجتماعية وأنسانا في البعض منها كالدور التربوي للطفل وافتقدنا لتلك العلاقة بين الأهل والجار والمريض أيضا” .
وعن مثل هذه الحالات من الأسر النووية تتحدث أم زينب وهي سيدة تعمل مع زوجها في إحدى الشركات الخاصة صباحا ومساء، إن العمل يجعلهما مشغولين عن ابنهما الوحيد طوال اليوم، فلا يخرجون إلا في المناسبات، ولا يدعون ابنهم يخرج مع أحد، ويقضون يومهم في اتصالات مع الخادمة يعطون التعليمات التي لا يجوز الخروج عنها، الأمر الذي جعل ابنهم هيثم يعاني العزلة وعدم الثقة بأصدقائه، ويعيش على خلاف دائم معهم، وهذا جعل أهله يلجؤون إلى الطب النفسي، الذي أكد لهم أن انعزال الابن عن المجتمع هو السبب.
وفي نفس السياق تؤكد المختصة النفسية “سعاد. م ” أن الابن الذي يتربى وسط أسرة صغيرة وتحت مراقبة خاطئة من الأهل منعزلاً، يتسم بالخوف الشديد وتصبح شخصيته مترددة، وقالت رغم أن الأولياء في الأسر الصغيرة يضعون برنامجا محددا لتربية الطفل، وتكون هناك أوقات لزيارات العائلة والنوادي، ومن هنا يتعلم الأخلاقيات الحميدة، فإن نفس هؤلاء الأولياء يقعون في خطأ الحرص الشديد على الأبناء وحرمانهم من الاحتكاك بأبناء عمومتهم وأبناء الجيران الذي يجعلهم يعيشون غربة داخلية.
وتضيف الأستاذة “م. سعاد” أن في هذه الأسر تجد الطفل ينتظر الأوامر من والديه حتى يتصرف، خاصة إذا كان وحيدا، فالأم تتحدث باسمه، وهذا يلغي شخصية الطفل وينتج عنه التردد والانعزال وكل المشاكل النفسية.
وعن الحالات التي تصادفها، تحدثت السيدة “سعاد. م” عن إحدى الأسر الصغيرة التي كان فيها الابن ممنوعا من زيارات الأهل، وكانت عليه حماية زائدة وسيطرة غير مبررة، أدت إلى جعل الابن مترددا وانطوائيا، ويعيش فقط أمام الأنترنت، ولا يحب أن يخاطب الآخرين، ويفتقد أبسط أساليب التحية لمن يزورهم، ويحمرّ وجهه عند مقابلة أحد.
وفي هذا السياق وجهت المختصة النفسانية “سعاد. م” رسالة إلى الأسرة الكبيرة تدعو أفرادها ليكونوا على قلب واحد، ويتحاور الوالدان في تربية الأبناء، لخلق التوافق والانسجام، ما يؤدي إلى تربية جيدة. أما الأسر الصغيرة أو النووية فتنصحهم بالوجود مع الأبناء قدر المستطاع، ومحاولة وضع برنامج معيّن للطفل، وعدم جعل الفراغ يتسلل إليه، وإشراكه في النوادي والزيارات العائلة، حتى يعيش الطفل على العادات والقيم الصحيحة.
الشارع يؤثر بنسبة 85 بالمائة على تربية الأبناء
التنوع الأسري الذي آل إليه المجتمع الجزائري يلعب دورا كبيرا في أساليب التربية، فكل أسرة تتبنى نموذجا تربويا معينا، خاصة مع بروز عدة وسائط جديدة في العملية التربوية لاسيما في الوسط الحضري، هذا ما عبر عنه الأستاذ الهادي سعدي قائلا بأن الشارع وجه آخر للخطاب التربوي زيادة على الخطاب الموجه من النواة الأولى للمجتمع، وهي الأسرة زيادة على ذلك التلفزيون، الأنترنت والهاتف النقال والتي – وصفها الأستاذ سعدي الهادي بالمؤثرات – فإن الشارع كما يسميه علماء الاجتماع بالمنظومة الثقافية، يأتي في مقدمة الجهات التي تؤثر سلبا على تربية الأبناء، ويأتي في المرتبة الثانية التلفزيون بنسبة تتجاوز 37 بالمائة مع الإشارة إلى تأثير القنوات الفضائية الأجنبية بعدما صرحت 70 بالمائة من الأسر بامتلاكها لهوائيات مقعرة، ومع ذلك يبقى التلفزيون أقل خطورة من الشارع في نظر الأسرة لأن التلفاز يمكن أن تتحكم فيه.
ل. ب