أنوار من جامع الجزائر

في ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الفساد – الجزء الثاني والأخير –

في ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الفساد – الجزء الثاني والأخير –

فَإِنَّ الْإِنْسَانِيَّةَ لَتُحْيِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْيَوْمَ الْعَالَمِيَّ لِمُكَافَحَةِ الْفَسَادِ، الْمُوَافِقَ الْتَّاسِعَ مِنْ شَهْرِ دِيسَمْبَرْ كُلَّ عَامٍ، حَسَبَمَا مَا قَرَّرَتْهُ الْجَمْعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلْأُمَمِ الْمُتَّحِدَةِ، وَجَزَائِرُنَا لَمْ تَشُذَّ عَنِ الِاحْتِفَاءِ بِهَذَا الْيَوْمِ، فِي سَعْيِهَا لِبِنَاءِ دَوْلَةٍ عَصْرِيَّةٍ، دِعَامَتُهَا الْوَحْدَةُ التُّرَابِيَّةُ، وَأَسَاسُهَا الْإِصْلَاحُ الشَّامِلُ، وَأَمَلُهَا الْعَيْشُ الْكَرِيمُ، وَغَايَتُهَا الْمَنْشُودَةُ سَعَادَةُ شَعْبِهَا فِي جَنَّةِ الدُّنْيَا، وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ فِي جَنَّاتِ الْخُلْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أُمَّةَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّشَادِ:إِنَّ مُكَافَحَةَ الْفَسَادِ بِمَفْهُومِهِ الشَّامِلِ يَتَطَلَّبُ تَضَافُرَ جُهُودِ كُلِّ الْفَاعِلِينَ أَفْرَادًا وَمُؤَسَّسَاتٍ، ابْتِدَاءً بِالْأُسْرَةِ النَّوَاةِ، وَانْتِهَاءً بِمَنْظُومَةِ الْحُكْمِ الرَّاشِدِ، وَإِلَيْكُمْ أَهَمَّ هَذِهِ الْآلِيَّاتِ:

أَوَّلًا: تَرْبِيَةُ النَّشْءِ عَلَى أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ لَقَدْ وَكَّدَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ أَهَمِّيَّةَ مَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِ فِي الْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْاِنْحِرَافِ وَالْفَسَادِ، فَقَالَ تَعَالَى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها الشَّمْسِ: 7–10، وَيُؤَكِّدُ الْأُسْتَاذُ نَبِيلُ السَّمَالُوطِي عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَّنْشِئَةِ الْحَسَنَةِ فَيَقُولُ: “إِنَّ الرُّؤْيَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ فِي وِقَايَةِ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْاِنْحِرَافِ تَسْتَنِدُ إِلَى تَرْبِيَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْإِلَهِيِّ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَتُرَبِّي الْإِنْسَانَ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ رَقَابَةً إِلَهِيَّةً دَائِمَةً عَلَى أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ، بَلْ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَسَرَائِرِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ يُعَدُّ أَهَمَّ عَامِلٍ يَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْاِنْحِرَافِ فِكْرًا أَوْ نِيَّةً أَوْ سُلُوكًا فِي الظَّاهِرِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ، فِي السِّرِّ أَوْ فِي الْعَلَنِ”.

ثَانِيًا: تَعْزِيزُ التّرْسَانَةِ الْقَانُونِيَّةِ لِمُحَارَبَةِ كُلِّ أَشْكَالِ الْفَسَادِ فِي الْمُجْتَمَعِ وَتَفْعِيلُهَا فِي أَرْضِ الْوَاقِعِ، حَتَّى لَا تَبْقَى حِبْرًا عَلَى وَرَقٍ، وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ”، وَمِنْ خِلَالِ هَذَا الْمِنْبَرِ الدَّعَوِيِّ نُثَمِّنُ كُلَّ الْقَوَانِينِ الَّتِي سَنَّهَا الْمُشَرِّعُ الْجَزَائِرِيُّ فِي هَذَا الصَّدَدِ، كَارْتِبَاطِ السِّيَاسَةِ بِالْمَالِ الْفَاسِدِ، مِنْ ذَلِكَ قَانُونُ 06–01 الْمُتَعَلِّقُ بِالْوِقَايَةِ مِنَ الْفَسَادِ وَمُكَافَحَتِهِ، الصَّادِرُ سَنَةَ 2006، وَالَّذِي يَنْصُّ عَلَى مَجْمُوعَةِ جَرَائِمَ مُرْتَبِطَةٍ بِالْفَسَادِ كَرَشْوَةِ الْمُوَظَّفِينَ الْعُمُومِيِّينَ، وَاسْتِغْلَالِ النُّفُوذِ، وَقَبُولِ هَدَايَا أَوْ مَزَايَا غَيْرِ مُسْتَحِقَّةٍ.

ثَالِثًا: الْعَمَلُ الْمُؤَسَّسِيُّ الْمُمَنْهَجُ بِأَنْ تَقُومَ مُؤَسَّسَاتٌ نِظَامِيَّةٌ أَوْ جَمْعَوِيَّةٌ، بِوَاجِبِ إِصْلَاحِ الْمُجْتَمَعِ، دَعْوَةً إِلَى الْفَضِيلَةِ، وَتَحْذِيرًا مِنَ الرَّذِيلَةِ، فَأَثَرُ الْعَمَلِ الْمُؤَسَّسِيِّ أَعْمَقُ وَأَدْوَمُ مِنْ أَثَرِ الْعَمَلِ الْفَرْدِيِّ، يَقُولُ عَبْدُ الْكَرِيمِ بَكَارٍ فِي هَذَا الصَّدَدِ: “مِنْ غَيْرِ الْمُمْكِنِ الْيَوْمَ تَنْمِيَةُ الْحِسِّ الْخُلُقِيِّ لَدَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أُطُرٍ وَمُؤَسَّسَاتٍ تُخَصِّصُ جُهُودَهَا لِنَشْرِ الْفَضِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَرْسِيخِ التَّلَاحُمِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَمُحَاصَرَةِ الشُّرُورِ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ التَّعَايُشَ الْأَخُوِيَّ وَاللُّجُوءَ إِلَى الْحُلُولِ السِّلْمِيَّةِ فِي فَضِّ النِّزَاعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُصْطَنَعَ لِذَلِكَ حَلَقَاتٌ لِلْحِوَارِ وَالنِّقَاشِ الْمَفْتُوحِ، وَبَرَامِجُ نَشْرٍ، وَبَرَامِجُ فِي الْإِذَاعَةِ وَالتِّلْفَازِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ”.

رَابِعًا: إِرْسَاءُ مبدأ الْعَدَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَضَرُورَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الثَّالُوثِ الْخَطِيرِ بِالْعَمَلِ عَلَى تَرْسِيخِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، ثُمَّ بِالتَّنْمِيَةِ الْمُسْتَدَامَةِ؛ وَالتَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ، لِلرَّفْعِ مِنْ مُسْتَوَى مَعِيشَةِ الْأَفْرَادِ، لِأَنَّ غِيَابَ الْعَدَالَةِ وَالتَّنْمِيَةِ فِي الْغَالِبِ، مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْاِنْحِرَافِ وَالْإِجْرَامِ؛ وَالِانْجِرَارِ نَحْوَ الْفَسَادِ، وَتَغْذِيَةِ الْأَزَمَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ صَلَاحُ الْمسْتَاوِي إِلَى أَهَمِّيَّةِ هَذَا الْعَامِلِ فِي الِاسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِيِّ وَالسِّلْمِ الْعَالَمِيِّ بِقَوْلِهِ: “وَالْاِتِّفَاقُ الْيَوْمَ حَاصِلٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الرَّئِيسِيَّةَ لِلتَّوَتُّرَاتِ وَالْحُرُوبِ وَالْأَزَمَاتِ، إِنَّمَا تَعُودُ فِي أَصْلِهَا إِلَى هَذِهِ الْأَسْقَامِ الثَّلَاثَةِ: الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْأُمِّيَّةِ، وَمَا لَمْ يُعَجَّلْ ـ دُوَلِيًّا وَإِقْلِيمِيًّا وَمَحَلِّيًّا وَوَطَنِيًّا ـ فِي وَضْعِ الْبَرَامِجِ الْقَصِيرَةِ وَالْمُتَوَسِّطَةِ وَالْبَعِيدَةِ الْمَدَى، لِلْقَضَاءِ بِصِفَةٍ نِهَائِيَّةٍ عَلَى هَذَا الثُّلَاثِيِّ الْخَبِيثِ، فَإِنَّ السِّلْمَ وَالْأَمْنَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَ شُعُوبِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ سَيَظَلُّ مُهَدَّدًا”. فَاتَّقُوا عِبَادَ اللَّهِ، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَاعْمَلُوا عَلَى إِصْلَاحِ دُنْيَاكُمْ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ لِلْآخِرَةِ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِ الْقَصْدِ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.

 

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر