يَوْمُ عَاشُورَاءَ فِيهِ إِحْيَاءٌ لِمَعَانِي ٱلِانْتِمَاءِ إِلَىٰ مَوْكِبِ ٱلْأَنْبِيَاءِ، مَوْكِبِ ٱلْـحَقِّ، مَوْكِبِ مُوسَىٰ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ. وَفِيهِ إِعْلَانُ ٱلْوَلَاءِ لِلْـحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَٱلتَّبَرُّءِ مِنَ ٱلْبَاطِلِ وَأَتْبَاعِهِ. إِنَّهُ يَوْمٌ ٱنْتَصَرَ فِيهِ ٱلْـحَقُّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ، وَٱرْتَفَعَتْ رَايَةُ ٱلتَّوْحِيدِ، وَخُذِلَ أَهْلُ ٱلطُّغْيَانِ. يَوْمٌ نَجَّى ٱللَّهُ فِيهِ نَبِيَّهُ مُوسَىٰ عَلَيْهِ ٱلسَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ بِقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ.قَالَ ٱللَّهُ تَعَالَىٰ: “فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِے اِ۬لْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَۖ “. أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ، تَأَمَّلُوا حَالَ أُمَّتِنَا ٱلْيَوْمَ، وَٱنْظُرُوا مَا يُعَانِيهِ إِخْوَانُكُمْ فِي غَزَّةَ ٱلْـحَبِيبَةِ: شَعْبٌ أَعْزَلُ، مُحَاصَرٌ، يُوَاجِهُ آلَةَ ٱلْقَتْلِ وَٱلدَّمَارِ، وَيُخْذَلُ مِنَ ٱلْقَرِيبِ قَبْلَ ٱلْبَعِيدِ! أَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُذَكِّرُنَا بِقَوْمِ مُوسَىٰ عَلَيْهِ ٱلسَّلَامُ، حِينَ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: ” فَاذْهَبَ اَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَۖ “. أَيُّهَا ٱلْمُسْلِمُونَ، إِنَّ عَاشُورَاءَ يُعَلِّمُنَا أَنَّ ٱلنَّصْرَ لَا يَكُونُ بِكَثْرَةِ ٱلْعَدَدِ، وَلَا بِقُوَّةِ ٱلْعُدَّةِ، بَلْ يَكُونُ بِثَبَاتِ ٱلْعَقِيدَةِ، وَصِدْقِ ٱلتَّوَكُّلِ عَلَى ٱللَّهِ، وَصَبْرِ ٱلرِّجَالِ. عَاشُورَاءُ يَغْرِسُ فِي قُلُوبِنَا ٱلْيَقِينَ بِأَنَّ ٱلنَّصْرَ بِيَدِ ٱللَّهِ، وَأَنَّ ٱلْـحَقَّ لَا يَزُولُ بِزَوَالِ ٱلْأَفْرَادِ، وَلَا تَنْكَسِرُ رَايَتُهُ بِضَيَاعِ ٱلْأَرْضِ، بَلْ تَبْقَىٰ رَايَةُ ٱلْـحَقِّ عَالِيَةً، مَا دَامَ هُنَاكَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهَا، وَيُضَحِّي فِي سَبِيلِهَا. وَإِنَّ أَعْظَمَ مَا نُحْيِي بِهِ عَاشُورَاءَ ٱلْيَوْمَ: أَنْ نُحْيِيَ قُلُوبَنَا بِٱلْأَمَلِ فِي نَصْرِ ٱللَّهِ، وَأَنْ نَكُونَ مِنْ أَنْصَارِ ٱلْـحَقِّ، لَا مِنَ ٱلْقَاعِدِينَ ٱلْمُتَفَرِّجِينَ، وَلَا مِنَ ٱلْمُبَرِّرِينَ لِلْـهَزِيمَةِ وَٱلْخُذْلَانِ. فَعَاشُورَاءُ رِسَالَةٌ لِكُلِّ مُسْتَضْعَفٍ: ٱثْبُتْ، وَلَا تَيْأَسْ، وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱلْبَاطِلَ إِلَىٰ زَوَالٍ مَهْمَا تَجَبَّرَ، وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا وَٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ. وَنَحْنُ نُحْيِي ذِكْرَىٰ عَاشُورَاءَ، نَجِدُهَا تَتَزَامَنُ مَعَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فِي تَارِيخِ بِلَادِنَا: يَوْمِ ٱلِاسْتِقْلَالِ ٱلْمَجِيدِ، يَوْمِ ٱلْخَامِسِ مِنْ جُوَيْلِيَةَ، ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي خَرَجَتْ فِيهِ ٱلْـجَزَائِرُ مِنْ ظُلُمَاتِ ٱلِاسْتِعْمَارِ إِلَىٰ نُورِ ٱلْـحُرِّيَّةِ. قَالَ ٱللَّهُ تَعَالَى ” وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَي اَ۬لذِينَ اَ۟سْتُضْعِفُواْ فِے اِ۬لَارْضِ وَنَجْعَلَهُمُۥٓ أَئِمَّةٗ وَنَجْعَلَهُمُ اُ۬لْوَٰرِثِينَ “. يَا لَهَا مِنْ مُنَاسَبَةٍ عَظِيمَةٍ! وَيَا لَهُ مِنْ تَوَافُقٍ بَدِيعٍ بَيْنَ يَوْمٍ نَجَّى ٱللَّهُ فِيهِ مُوسَىٰ عَلَيْهِ ٱلسَّلَامُ، وَيَوْمٍ نَجَّى ٱللَّهُ فِيهِ ٱلْـجَزَائِرَ مِنْ ظُلْمِ ٱلْمُسْتَعْمِرِ وَعُدْوَانِهِ! نَعَمْ، كَمَا كَانَتْ نِهَايَةُ فِرْعَوْنَ ٱلْهَلَاكَ وَٱلذُّلَّ، كَذَٰلِكَ كَانَتْ نِهَايَةُ ٱلْمُسْتَعْمِرِ ذُلًّا وَخَسَارَةً، بَعْدَ أَنْ بَذَلَ ٱلشُّهَدَاءُ دِمَاءَهُمْ مَهْرًا لِلْـحُرِّيَّةِ وَٱلِاسْتِقْلَالِ. إِنَّ عَاشُورَاءَ وَٱلِاسْتِقْلَالَ – أَيُّهَا ٱلْأَفَاضِلُ – كِلَاهُمَا يُعَلِّمَانِنَا دَرْسًا وَاحِدًا: أَنَّ ٱلْـحُرِّيَّةَ لَا تُوهَبُ، وَلَا تُعْطَىٰ، بَلْ تُـنْتَزَعُ ٱنْتِزَاعًا، وَلَا تَكُونُ إِلَّا بِٱلصَّبْرِ وَٱلتَّضْحِيَةِ وَٱلثَّبَاتِ. قَالَ رَسُولُ ٱللَّهِ ﷺ: “وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱلنَّصْرَ مَعَ ٱلصَّبْرِ، وَأَنَّ ٱلْفَرَجَ مَعَ ٱلْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا” رواه أحمد، وَمِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا بِٱلنَّصْرِ، أَنْ نَـحْفَظَ ٱلْأَمَانَةَ، وَأَنْ نَتَمَسَّكَ بِٱلدِّينِ، وَأَنْ نَبْنِيَ ٱلْوَطَنَ عَلَىٰ أُسُسِ ٱلْعَدْلِ وَٱلْـحَقِّ، لَا عَلَى ٱلْفَسَادِ وَٱلظُّلْمِ. ٱللَّهُمَّ ٱجْعَلْ هَٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا مُّطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلَادِ ٱلْمُسْلِمِينَ. ٱللَّهُمَّ ٱجْعَلْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ نَصْرٍ وَتَمْكِينٍ لِإِخْوَانِنَا ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ. ٱللَّهُمَّ ٱجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْتَبِرُونَ بِآيَاتِكَ، وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِكَ، وَيَثْبُتُونَ عَلَى ٱلْـحَقِّ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر