لو لم يكن الرجل العابر إلى جوارها بالصدفة لسقطتْ أرضًا، فقد تلقّفها بيدين مرتعشتين ولسان متعثّر:
– يا ستّار…
ارتبكت، خجلت، اندهشت، وهي بين يديه بكل ثقلها، فارتبك، واستنفر كل طاقته، وهو يسندها كي لا تقع، جاءه صوتها فيه بعض الغصّة والغضب من نفسها:
“هاذوا هوما الطرق تاع العرب”…
فقال مطمئنًا:
– الحمد لله أنك بخير.
عادت تلتقط أنفاسها، وعاد يلتقط أنفاسه، ويفتشان معًا عن سبب هذه العثرة، وهذا السقوط المفاجئ، سألها وهو يبحث بعينين لامعتين:
– هل ضاع منك شيء؟…
– لا أعرف…
– هذه الحفر اللعينة لا تُرَى بوضوح كامل.
انحنت لتمسح بعينين يقظتين تلك المساحة من مسرح تعثّرها، لكنها أحست للحظة وكأن جسدها يخذلها، فلم يكن في تمام تناسقه، إذ بدت لها وقفتها مريبة بعض الشيء، وتوازنها مختل إلى الحد الذي جعلها تدرك أنّ هذه العثرة قد كلّفتها كعب حذائها…
– خسرتُ كعب الحذاء…
عاد الرجل يتفحّص الأرض بشيء من التروي، راح يحصر المساحة التي تعثّرت فيها بعينين حازمتين، بدا له أن يعيد تمثّل المشهد في رأسه من جديد، فيما انحنت هي أكثر تقلّب بصرها في هذه المساحة المملوءة بالأتربة والحجارة…
– كيف يتركون الرّصيف منقوص البلاط، فيعرّضون حياة الناس للخطر؟..
سمعته وهو يتساءل بأسى، في نفس الوقت الذي شعرت فيه بأنه قد أطال المكوث معها في قلب الشارع. فكرتْ في الانسحاب بحذاء منقوص الكعب، فكرت في مشيتها التي قد تبدو فيها وكأنها تعرج، فكرت لو تخلع فردتي الحذاء وتتحرر بمشية مستقيمة، فكرت فيما قد يصيب أخمص قدميها من أذى، فكرت في رؤية الناس لها وهي على هذه الحال، فكرت في ردود أفعال زملاء وزميلات العمل على مثل هذا الموقف، فكرت في قطعة حجر تعيد بضرباتها الكعب إلى مشط الحذاء، وفكرت في إسكافي يحل مشكلتها من جذورها…
وأمعنت في البحث…
وأمعن الرجل في البحث معها…
ثم قالت بشيء من القلق:
– يا له من نهار…
– فلنحمد الله على أنه لم يحصل لك أي مكروه.
– ولكنني عالقة بلا حذاء…
– ليست مشكلة.
– لكنني لا أعرف حتى كيف أمشي…
– لنجتهد في البحث عن الكعب أولاً.
عادت تراوح في المكان من جديد، تنقل خطواتها بروية وحذر، وتحملق في المساحة المتاحة التي شهدت عثرتها… قطع أحجار صغيرة متناثرة، بعض قطع البلاط المهشم، الأتربة، هذه الحفر اللعينة، النتوءات….
والرجل إلى جانبها، يجتهد بكل ما أوتي من قدرة بصر، وحركة في البحث معها، وعاودها اليأس من جديد، فتساءلت:
– كيف يحدث هذا؟!..
– ما الذي حدث؟..
– الكعب..
– ما به؟..
– كيف يضيع في هذه المساحة الصغيرة؟..
– سنجده..
– لا يبدو لي ذلك.
– كوني متفائلة.
نظرت إلى الساعة في معصمها، وهمست:
– الوقت…
فأومأ لها برأسه كأنه يقول… نعم هذا هو ما يدفعنا إلى الكد في البحث أكثر.
كانا بعيدين عن أي محل يبيع الأحذية، فكّر في إسكافي، وربما فكّر مثلها في حلول كثيرة لمشكلة لا تخصه، سيّدة لا يعرفها ألقى بها الصباح في طريقه، وحذاء مكسور الكعب، وكعب لا أثر له، والوقت يُلزِمُهُمَا بالذهاب كلٌ إلى وجهته، تنهد، وعاد يتساءل بفتور:
– كيف… كيف يختفي الكعب بهذه الصورة الغريبة؟!…
كانت منشغلة عنه بالبحث، فأضاف:
– هو لم يختفِ، هو في مكان ما، وهذا المكان الذي يتواجد فيه هو الذي لم نعثر عليه…
استمرت في البحث، كان الصباح غارقًا في شمسه الكسلى، بدا الشارع في فراغه.. لا سيارة تمر، ولا عابر.. بدا وكأنهما بوجودهما يملآن هذا الكون…
حتى قال لها:
– هناك…
أشار بسّبابته إلى مكان ما، حدّدته بعينيها من إشارته، تحرّكت نحوه، فخيّبت أملها وأمله…
– حجر…
لم يكن كعبًا، مجرد حجر يتساوى في حجمه بحجم كعب حذاء،
ويقارب لونه… ألقت الحجر بعيدًا، وعادت تقول:
– الوقت… لم يبق لدي متسعٌ من الوقت…
كأنها كانت تستشيره في فكرة الذهاب أو البقاء، ولم يعلّق…
انهمك من جديد في مسح مساحة أوسع من مكان عثرتها، وافترض أن الكعب قد انكسر قبل سقوطها بخطوات، وقال لنفسه هامسًا:
– كم خطوة؟…
لم يتبيّن جوابًا محددًا دقيقًا من روحه… فقط عليه أن يخرج من حقل هذا البحث إلى مسار قدومها، ربما خطوة أو ثلاث أو خمس، وربما أقل.. هو مفتوح على احتمالات شتى ليحل المشكلة، وفي مكان ما سيكون الكعب في انتظار يد تلتقطه، راح يمشي محنيًا جذعه متفرسًا في الأرض، وأحيانًا كان يزيح بعض الأحجار والأوساخ برجله، لعل الكعب يطلع من بين ركامها، لمحت كدّه وجديته، فعلّقت آخر آمالها على ما يقوم به، ورغم هذا النّهب من الوقت الذي يعصف بها، وهذه الخيبة الصباحية التي لم تكن في الحسبان، فقد ابتسمت في داخلها… بسمة رضا أو زهو أو سعادة… هي نفسها لا تعرف مبعث بسمتها، أما هو فقد بدا من حركته وكأنّ اليأس قد تسلل إليه، ليس ثمة دفقة أمل تناور على وجهه، إلى أن رفع قامته فرأى بقايا بسمة على وجهها، عاد يقول:
– يبدو أنه لا أمل…
ضحكت بحرارة صادقة، راحت تقترب منه، فأضاف:
– لقد قمنا بما يجب القيام به…
قالت بحنو:
– اعتذر أني ورّطتك في مشكلة لا تعنيك.
نعم لم تكن تلك مشكلته، ولم تكن تربطه بالمرأة أية علاقة تذكر، مجرّد مصادفة صباحية عمياء، على هامش رصيف.. بدا الأمر كما لو أنه حالة حلم، وتنبّه لوجودها من جديد وهي تحمل مشط الحذاء في يدها:
– المشكلة أنك حافية…
– لم يبق لي وقت للبحث.
سحب كمّ معطفه، نظر في الساعة:
– لك عذركِ في التأخير.
– ليست مشكلتهم أيضا.
– فما الحل؟!…
– لا أعرف…
استندت إلى جذع شجرة برتقال نابتة على الرصيف، جالت ببصرها في الأرجاء، لا أحد غيرهما… الطريق ممتدة بكمال كسلها.. بعض الأتربة والغبار راحت تلهو به يد الرّيح…
بعد نصف قرن من الزمن، وقف رجل عجوز على باب محل أحذية نسائية ينتابه الخجل متسائلاً:
– هل أجد عندكَ كعب حذاء ؟…
رد البائع من دون أن يتطلّع إلى وجهه:
– كعب الرِّجْلْ اليمين أو اليسار؟…
الكاتب والقاص طارق لحمادي- قسنطينة-