أيها المؤمنون، تتجدد علينا اليوم ذكرى مباركة، ونفحة من نفحات الله الزكيّة، إنها ذكرى مولد سيد الكائنات ﷺ، إنه مولدٌ ليس كأي مولد، فلم يكن ولادة جسدٍ فحسب، بل كان ميلاد أمة، وانبثاق فجرٍ جديد في حياة البشرية. لقد وُلد نبينا ﷺ والناس غارقون في جاهلية جهلاء، يسجدون لحجارة صمّاء، لا تنفع ولا تضرّ، مجتمع يئدون البنات خشية العا: “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالُانث۪يٰ ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَدّاٗ وَهُوَ كَظِيمٞ يَتَوَٰر۪يٰ مِنَ اَ۬لْقَوْمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۖ أَيُمْسِكُهُۥ عَلَيٰ هُونٍ اَمْ يَدُسُّهُۥ فِے اِ۬لتُّرَابِۖ أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَۖ “، مجتمعات يظلم القويُّ فيها الضعيف، فجاء ليبدد ذلك الليل المظلم، ويصنع إنسانًا جديدًا، إنسانًا يعرف ربه، ويقيم ميزان العدل، ويزرع الرحمة في القلوب. أيها الأحبة في الله، إن الاحتفاء بالنبي ﷺ من جملة حقوقه علينا، وهو من علامات الإيمان، قال تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اِ۬للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٞ مِّمَّا يَجْمَعُونَۖ “، وقد صح عند النسائي عن معاوية رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ خرجَ على حَلْقةٍ من أصحابِهِ فقالَ ما أجلسَكم قالوا : “جلَسنا ندعوا اللَّهَ ونحمَدُهُ ، على ما هدانا لدينِهِ ومنَّ علينا بِكَ، قالَ آللَّهُ؛ ما أجلسَكم إلَّا ذلِكَ؟ قالوا آللَّهُ ما أجلسنا إلَّا ذلِكَ، قالَ أما إنِّي لَم أستحلِفْكم تُهمةً لَكم، وإنَّما أتاني جبريلُ عليْهِ السَّلامُ فأخبرَني أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُباهي بِكمُ الملائِكةَ”. فالفرح بمقْدمه إلى هذه الدنيا ومولده من كمال الإيمان، وسبب لرضى الرحمن، وطريق موصل إلى أعلى الجِنان. لكن الفرحَ بميلاده الشريف لا ينبغي أن يُقتصَر فيه على ما نراه من مظاهر السرور والحبور في العالم اليوم من زينة واحتفال فحسب، بل الفرح الحقيقي يكون بحسن الاقتداء به “لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِے رَسُولِ اِ۬للَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اُ۬للَّهَ وَالْيَوْمَ اَ۬لَاخِرَ وَذَكَرَ اَ۬للَّهَ كَثِيراٗۖ “، يكون بطاعته ﷺ “وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ” ويكون بنصرته عليه الصلاة والسلام “فَالذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ اُ۬لنُّورَ اَ۬لذِےٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُفْلِحُونَ”. إنَّ نصرة سيدنا محمد ﷺ ليست أن نرفع شعاراته ظاهرا ثم نخالف هديه، بل إنما تكون بتحكيم سنته في أنفسنا وبيوتنا وأسواقنا ومعاملاتنا وسائر مناحي حياتنا. نصرتُه أن تكون صادقًا –أيها المؤمن- كما كان هو صادقًا، رحيماً كما كان رحيماً، حليمًا كما كان حليمًا. ألم تروا –معاشر المؤمنين- كيف نصره أصحابه رضي الله عنهم؟ تركوا ديارهم وأموالهم، وهاجروا إلى المدينة المنورة، رغبة في الله ورسوله، وبذلوا المهج في سبيله. هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يهاجر بماله كلّه إلى الله ورسوله، يدخل مع صاحبه وحبيبه الغار، فيقول له ﷺ: “ما ظنّك باثنين الله ثالثهما”. فكانت نصرة الصديق باليقين والثبات، قبل أن تكون بالسيف والقتال، ولو بسطنا الذكر لصُور نصرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لنبينا وحبيبنا ﷺ لرأينا العجب العجاب. ثم إن نصرته ليست واجبة على أمته في وقته وحده، بل تجب في كل وقت وحينٍ، وهي اليوم أوجب وآكدُ، في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وتكالب فيه أعداء الله على الإسلام، يريدون تشويه صورته الجميلة عند الناس “يُرِيدُونَ لِيُطْفِـُٔواْ نُورَ اَ۬للَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمّٞ نُّورَهُۥ وَلَوْ كَرِهَ اَ۬لْكَٰفِرُونَۖ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر